الكلام أم الإيماءات؟


*د. حسن مدن

لاحظ “فرويد” مرة في معايناته أن إحدى مريضاته كانت تعبر بالكلام عن السعادة والسرور مع خطيبها، ولكنها بطريقة عفوية كانت تخرج خام الخطوبة من إصبعها وتعيده. وأدرك المحلل النفسي الشهير أهمية هذه الحركة العفوية، لذا لم يستغرب حين بدأت المشاكل بينها وبين خطيبها تطفو على السطح. ومصدر هذه الملاحظة هو الاهتمام بإيماءات الجسم، لا بل وايلائها عناية أكبر في الكلام أو التعبير الشفوي.

وفي العقود الأخيرة أخذ في النمو فرع مهم في علم الاجتماع يهتم بعلم الصمت وإيماءات الجسد في دراسة سلوك الناس، لا بل وفحص مدى صدق ما يقولونه، إذ يحدث كثيراُ أن تخون إيماءات الجسم فحوى الكلام الذي نقوله. والمساحة هنا مشتركة بين حقلي عالم الاجتماع والمحلل النفسي، فيما الهدف هو في الجوهر واحد: إعطاء الإيماءات مكانتها الكبرى في معرفة دواخل البشر ودوافع نشاطهم. ودارسو السينما يعرفون إن شيوع الأفلام الناطقة القائمة على الحوار حرمنا من متعة السينما الإيمائية التي كانت تعتمد على رموز وحركات الجسم لا على النطق. والمؤكد إن مكانة فنان عظيم كشارلي شابلن في التاريخ السينمائي العالمي لا تعود فقط إلى موهبته الفذة ولا إلى مواقفه التقدمية الشهيرة التي جعلته من أوائل ضحايا المكارثية، وإنما كذلك لقدرته العالية في توظيف إيماءات وحركات الجسد في إيصال الفكرة التي تنطوي عليها أفلامه الأولى الخالدة، مركزاً على انفعالات الوجه وحركات اليدين وطريقة المشي.
وإذا اعتبرنا أن الرسالة التي يراد إيصالها تتكون من واحد صحيح، فإن العلماء يقولون إن حصة الكلام من هذا الواحد لا تعدو (0.07) فيما نسبة (0.38) تعود إلى النغمة الصوتية، أي ارتفاع الصوت أو انخفاضه، خشونته أو ليونته، أما الصمت من حيث هو قرين الإيماءات فيحتل نسبة (0.55)، أي أن أكثر من نصف الرسالة يعود للصمت – الإيماء لا للكلام أو الصوت. وإذا كانت مهمة الصوت أو الكلام هي نقل المعلومة، فإن الإيماءات الصامتة تعبر عن المواقف الداخلية للشخص.
وثمة رجل استرالي يعمل مديراً لشركة إدارة واستشارية مركزها مدينة سيدني واسمه “ألن بيز”، أمضى أكثر من عشر سنوات وهو يقوم بدراسات وأبحاث ومقابلات وضع على إثرها كتاباً طريفاً عن لغة الجسد، أو كيف نقرأ أفكار الآخرين من خلال إيماءاتهم، وقد أصدرت دار نشر أردنية ترجمة عربية لهذا الكتاب منذ سنوات. ويلفت المؤلف النظر إلى أننا حين نصف أحدهم بأنه صاحب بديهة أو حدس، فإننا نشير بذلك إلى مقدرته على قراءة التلميحات الصامتة للآخرين ومقارنتها بالكلام الذي يقولونه، ونحن نستطيع معرفة ما إذا كان هذا الشخص صادقاً أو أنه يكذب علينا من ملاحظة أن كلامه لا يتفق مع إيماءات جسده، فمثلاً تقترن إيماءة الكفين المفتوحين بالصدق والأمانة، ولكن إذا فتح الكاذب كفيه وابتسم لك فإن الإشارات الدقيقة الصادرة عنه تفضحه، فمن الممكن أن تتقلص فتحة عينيه أو يرتفع أحد حاجبيه أو زاوية فمه.
وبشكل عام فإن لدى النساء قوة إدراك حسي أكثر من تلك التي لدى الرجال، وبرأي المؤلف أن هذا هو نفسه الذي يسمى (حدس المرأة)، حيث لدى النساء استعداد فطري في اكتشاف الإشارات الصامتة، وهو يعتقد جازماً أن من السهل كشف كذب الرجال، ولكن من الصعب التعرف على كذب النساء أو كشفه.
ويقدم المؤلف نصائح لتعلم لغة الجسد، وهو يرى أن قاعات المطارات هي مكان نموذجي لملاحظة إيماءات الناس لأنهم يعبرون بشكل صريح عن التلهف والشوق والغضب والأسف ونفاذ الصبر والسعادة وانفعالات أخرى كثيرة من خلال هذه الإيماءات.
لكن لجاك دريدا رأي آخر: لا توجد حقيقة خارج اللغة، أي خارج الكلام.
ومهما بدت هذه العبارة صارمة في حكمها، فإنها تتضمن الكثير من الصحة، فبدون اللغة ما كان للخبرات والتجارب الإنسانية أن تصاغ في نسق من التفكير، وما كان بإمكان الأحكام المختلفة أن تخضع لامتحان الصواب.
بين التفكير والكلام، بين تلك المسافة التي تفصل بين لحظة انبثاق الفكرة في دماغ الانسان وبين خروجها من لسانه على شكل كلام يوصله لمن هم حوله، مسافة لا نعلم ما هي الوحدة الزمنية اللازمة لقياسها، أتكون الثانية مثلاً، أم الدقيقة أم ماذا، فما نقوله على لساننا يمر عبر عملية معقدة، منذ لحظة إرساله من الدماغ، حتى لحظة تشكله ككلام مقال ومسموع من آخرين.
في رواية “ليلة القدر” للطاهر بن جلون ترد فكرة غير مألوفة عن مستودع للكلام يلجه الناس للتزود بالكلمات، على طريقة التزوُّد بالطعام أو الشراب. كان هذا المستودع بمنزلة “قاموس المدينة”، حيث ثمة رفوف كبيرة فوقها يافطات، كل يافطة تحمل حرفاً أبجدياً، والغريب أنه لا يأتي إلى هذا المستودع البُكم أو الذين يعانون فقراً في الكلمات، وإنما يأتي إليه أيضاً المعروفون بالكلام من دون أن يقولوا شيئاً مُفيداً، والثرثارون الذين تنقصهم الكلمات، فيأخذون منها ما يلزمهم لعدة أيام أو أسبوع.
وفي المستودع أيضاً كلمات مُكدسة وقد علتها طبقة من الغبار لأنه لا أحد يستعملها، وكانت توجد منها أكوام تصل إلى السقف، للدرجة التي تجعل الزائر يتساءل عما إذا كان الناس لم يعودوا في حاجة إلى هذه الكلمات.
لكن حتى لو لم نكن من هؤلاء الذين يذهبون إلى مستودع الكلمات هذا، ونشعر بأن احتياطي الكلمات لدينا كافٍ للعمر كله، فإننا نقع في حالات تهربُ فيها الكلمات منا، فنشعر حينها بأن الصمت يكاد يتحول إلى لغة، إلى وسيلة تعبير، لأن الكلمات أعجز من أن تنقل أو تصف ما نحن فيه.
الإيطالي ألبيرتو مورافيا في روايته “الاحتقار” وصف حالاً مشابهة، سماها تحديداً حالة عجز، حالة صمت لا يُحتمل، مصنوع من كل ما كان يجب أن يُقال، حين يضغط الشعور بأن علينا أن نتكلم، وأن لدينا أشياء كثيرة نقولها، ومع ذلك نلزم الصمت، لا مع الشعور بالرضا، لأننا صامتون، بل مع ذلك الشعور بأننا صامتون رغماً عنا.
حين أراد رولان بارت أن يفرق بين الكلمة المكتوبة والكلمة المنطوقة عقد مقارنةً بين الكاتب والأستاذ أو المعلم في المدرسة أو الجامعة، فلاحظ أن لسان الأستاذ لو زلَّ بعبارة من العبارات فإنه يملك الفرصة لتدارك الموقف، لتصحيحها، كأن يقول لتلاميذه أو مستمعيه: لا تفهموا كلامي حرفياً، أو لا تأخذوه بالمطلق، أو يمكن أن يضيف: حين قلت لكم ما قلت كنت أقصد التالي. وقد نجد أن “التالي” يمكن أن يكون نقيض ما كان قاله في البداية. أي أن الكلمة المنطوقة، في سياق حديث ممتد أو محاضرة أو دردشة، تحتمل أن تدقق أو تصحح أو تعدل، وقد يصل هذا التعديل حد قول شيء آخر، ينقضها أو ينفيها.
أسهل ما يمكن أن تقوله لأحدهم، وقد غاظه ما قلته أو لم يعجبه أو استفزه، أنك لم تفهم كلامي، فقد كنت أعني شيئاً آخر،أو لم اعبر عنه بشكل دقيق، ثم تعطي لنفسك الحق الكامل في التراجع عما قلته تحت ذريعة انك لم تعبر عن نفسك بصورة صحيحة. أما الكاتب، على خلاف الأستاذ، أو على خلاف أولئك الذين يتعاطون مع طريقة التعبير الشفهي، للأفكار التي يتبنونها، فإنه أسير كلمته المكتوبة. ما أن يكتب الكاتب فكرة من الأفكار وينشرها موقعة باسمه حتى تصبح قيداً عليه، وإلزاما أدبياً ومعنوياً.
إنه لا يستطيع أن يقول: لست أنا من كتب هذا الكلام، ولا يستطيع أن يقول: إن الذي نقل لكم هذا الكلام فعل ذلك بصورة غير دقيقة أو أمينة، ولا يستطيع أن يقول: إنني لم أكن أقصد ما كتبته، وإنما كنت اقصد أمرا آخر، فلا أحد يأخذ هذا القول مأخذ الجد، ثم إنه لا يملك تلك المساحة المتاحة للمتحدث الشفوي بأن يوضح أو يشرح أو يضيف ويقول: إنني كنت أقصد شيئا آخر .
“الكلام المكتوب لا يمكن أن يتراجع القهقرى”، كما يذهب إلى ذلك أحد الكتاب، ثم إن أي كلمة تضيفها لمزيد من الشرح والتوضيح لا تلغي العبارة السابقة لها والمدونة. إن الكلمة المضافة تحتمل قولا جديدا يعضد ما سبقه، وإن لم يعضده فإنه يحمل كاتبه موقفا آخر مضافا إلى ما كان قد قاله. الفكرة إن الكتابة باقية أما الكلام فعابر. التنصل من الكتابة أصعب من التنصل من الكلام، لأنك لا تستطيع أن تقول: إنني لم أكتب ما كتبت.
وليست خطيئة أن الكاتب يعدل في مواقفه ويطورها، ويتخلص من قناعات لم تزكها الحياة أو كشفت التجربة عن بطلانها، لكن شريطة أن يقوم بما يشبه النقد الذاتي لنفسه بأن يقول لمن يقرأه: كنت على خطأ. لقد أدركت خطئي، واكتشفت مواقع جديدة للحقيقة. مشكلتنا أننا ابتلينا بكتاب يعتقدون أنهم دائما على صواب لذا فهم يتنقلون بحرية بين المواقف، ويريدوننا أن نصدق أنهم في الموقف وفي نقيضه دائماً على صواب.
_______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *