«كتاب الرسائل».. أسئلة الكتابة وتعارضات المعنى


*وفيق سليطين

تجري الرواية على استثمار تقنية الرسائل المتبادلة بين «فولودينكا» الذي استدعي إلى مركز التجنيد، والتحق بجبهات الحرب المستعرة في «الصين»، وحبيبته «ساشينكا» في الطرف الآخر، أو في موطن الألفة المفتقد الذي تحتفي الرسائل بيومياته وتفصيلات عيشه الحميم في زمن الصّبا والحب والتفتّح، وتستعيدها الآن بفعل الكتابة الذي يختلط فيه الحبّ بالحرب، وتتجاور في داخله الأمكنة والأزمنة وضروب متناقضات الموت والحياة على اختلاف ألوانها وتباين صورها، كما تتضايف في رقعة الرسائل وتتلازم سائر أشكال الوجود العاري والمحتجب، وتختلط فيه سيرورات النفس وأفعالها الداخلية بنيران الواقع، وتداعيات الحرب، وتفسّخ الجثث، وصور الدمار اليومي، ومخلّفات المعارك، وآثارها الضارية في مختلف مستويات الوعي والوجود، والمعايشة والتأمّل، وتَقَابل الوجود على جبهات الحرب من جهة مع الوجود على جبهات الكفاح اليومي في حرب الحياة التي تخوضها «ساشينكا» في الطرف الآخر داخل صيرورات المجتمع، وهي تُنشئ الرسائل وتستقبلها، وتحيا هنا وهناك في آن معاً.

تسود الرواية ـ كما قلت ـ تقنية الرسائل، وتؤسسها في نحو الإرسال والاستقبال الذي يتتابع، ويتناوب عليه طرفا الفعل: «فولودينكا» و«ساشينكا». وإذا كان من شأن ذلك أن يُشعر بشيء من الرتابة والدورية، فإن الغنى السردي، والتنوّع الكلامي، وتمايز طبقات النسيج في السرود الفرعية الداخلية، والمرويات المؤطَّرة داخل النطاق العام، والنابضة بحرارة المعيش، وتنوّع مستويات التجربة، كل ذلك يسهم في كبح ما يتبدّى من طوابع التكرار، والمعاودة، والاستنامة إلى الشعور الأولي بهيمنة الاختيار التقني الموحَّد الذي يقوم عليه بناء الرواية، بل إنه يشكّل عاصماً منه؛ إذ لا تلبث الرسائل من جهتي التقابل أن تنفتح على مزيد من الخصب والمجاوزة، سواء أكان ذلك على سبيل الافتراع السردي والتغاير المنظوري والتعدد الرؤيوي، أم على سبيل التناغم بين الواقعي والمتخيل، وبين اليوميات وأفعال الكتابة.
تؤكد الرواية، من خلال عنوانها أولاً، ومن خلال طابعها التقني ثانياً، أثر الكلمات في الوجود؛ فهي تبدأ من كتابة في عدد «موسكو المساء»، وتجدّد القول بأولية الكلمة بدئياً، وبأن كلمات الكتاب شيء يشبه حافلات الترامواي التي تقود إلى الخلود. وهكذا يخترق فعل الكتابة، في ظهوراته وإحالاته، أغوار العمل الروائي، وينفذ في تضاعيفه، ويصل بين مستوياته الأدائية وزخمه الإيحائي وذبذباته المعنوية ومترتباته الفكرية والفلسفية. فالكلمات تسوّغ وجود الموجود، وتعطي المعنى لما هو لحظي، وتجعل من غير الحقيقي حقيقياً.
بين الكتابة والحب والموت
في الرسائل ينطلق صوت الذات، وتتمدّد الرغبة من داخل الحمولة المكتظّة بقسوة الواقع وضروراته الطاحنة، وفي الرسائل الموجّهة من ساحات الوغى يختلطُ نشيد الحب بصوت المدافع وجثث القتلى التي تتعدّد أشكالها وتصاويرها وأوضاعها، بحيث تبعث على التأمل، وتضخّ زمنه المتراخي كأنها تقتطعه من زمن المعارك والعصف المدمّر. ويبدو أن الفسحة التي تتيحها الرسائل توفّر، من داخل هذه الشروط، إمكانية التأمل والتفلسف، حتى لكأننا، أحياناً، نتلقّى صوت حكيم رواقي يتكلّم على السعادة في الآن، وعلى حقيقة وجود الزمن، أو على إمكانية وجوده مستقلاً عنّا، فنحن لسنا سوى شكل وجود الزمن.
المهمّ أن الكتابة تقبض على الوجود، وتثبّته في أبديتها، وفيها يغدو كلّ شيء مرئياً ومعايشاً، كأنه لم يكن من الماضي، بل يحدث الآن. وبهذا المعنى يبدو أن فعل الكتابة في تقنية الرسائل يستولي على جهات الزمن، ويحقق إمكانية الحياة بالكتابة ضداً للموت المعمَّم في الخارج. وهكذا تغدو الكتابة منسرباً للحياة المعطّلة هناك، ومقاومة للموت، وانتصاراً عليه بالحبّ الذي تنبض به الرسائل، دون أن تستقلّ الرغبة فيها عن مبدأ الواقع، ودون أن تنفصل عن تيّار الحياة الذي يحملها، أو تتجافى عن شروطه الخاصة.
في مستوى آخر، تبدو الكتابة أشبه ببرميل «ديوجين» الذي ينهمك بدحرجته من أسفل إلى أعلى، ليعود إلى وضعه الأول وينطلق به من جديد، مختلقاً به فعلاً يؤديه. كذلك تبدو الرسائل، في إفصاح بطل الرواية، انتصاراً على العبث والفراغ وانتظار الموت. يقول: «المهمّ ألا تفكّر. يشغلون الجنود ليمنعوهم من التفكير بالموت، وأنا أختلق عملاً بكتابة هذه الرسائل إليك». فكل رسالة يمكن أن تكون الأخيرة. ومن هنا يحرص على قول كل ما لم يقُلْه: «لقد آمنتُ أن الكلمات هي جسدي حين لا أكون موجوداً». وبهذا تسجّل الكتابة انتصارها، وتغدو رقعة للحب والحياة؛ فالدمار الذي يتمدّد في الواقع ويلاشي مظاهر الحياة يجعل من الرسائل مرتعاً لها، وتعويضاً عن قسوة الشرط الإنساني هناك، ومن هنا كانت الكتابة تنطوي بالضرورة على هذا الإبدال.
مجاز السفينة وتعارضات الكتابة
يدوّن «فولودينكا» في واحدة من رسائله: «لماذا يكتب الناس؟ إنهم يكتبون. معنى ذلك انهم لا يزالون أحياء. بمَ أختلف عن شهرزاد وحكاياتها؟». لكن وعلى الرغم من سريان هذا التقليد الشهرزادي في تأجيل الموت ومقاومته والانتصار عليه، فإن الكتابة، ممثَّلة هنا بالسرد في تقنية الرسائل، تبقى، من جهة أخرى، منطوية على نقصها الخاص في التحقق والإشباع؛ ذلك أنها تواري، بالإبدال والتأجيل، معنًى من معاني الفقد.
لقد أحبّ «فولودينكا» الكلمات حتى الجنون، لكنها راحت تتغامز من وراء ظهره. فالأصح ـ كما يكتب ـ هو أن الكلمات تستطيع أن تخلق شيئاً خاصاً بها، ولكنك لا تستطيع أنت نفسك أن تصبح كلمات. الكلمات مخادعة، تَعِدُكَ أن تأخذك معها في العوم، ثمّ تبتعد عنك سرّاً، ناشرةً أشرعتها كلَّها، وتبقى أنت على الشاطئ.
على هذا النحو تتبدّى في الصياغة الروائية تعارضات الكتابة في انقسام الدليل بين الوجد والفقد، وبين الامتلاء والخواء في اللحظة نفسها. فالكلمات التي تجعل من الرسائل حاضنة للحياة، تكشف، من الجهة الأخرى، عن نقصانها الخاصّ، ففي لحظة ما تُبدي الكلمات شيئاً من محدوديتها وعبثيتها تجاه إمكان استيعاب ما هو حقيقي. وهنا مكمن التباسها في انطوائها على تدافع القوة في تراتب الأضداد وازدواج المعنى الذي يعمّق الهوّة فيها، ويحفظ الانقسام.
هكذا يكتب لـ«ساشينكا» انه كان يرى الكلمات، ولا يرى عبر الكلمات. يقول: «كنتُ كمن ينظر إلى زجاج النافذة لا إلى الشارع. كل ما هو موجود ولحظي يعكس الضوء. وهذا الضوء ينفذ عبر الكلمات، كما عبر الزجاج. الكلمات موجودة لكي تمرّر الضوء عبر ذاتها».
على هذا المستوى يأتي استخدام السفينة مجازاً روائياً، فسفينةُ نوح هناك تقابلها سفينة الكلمات هنا. لكنّ سفينة نوح المصنوعة من جذوع الأشجار تمضي به في زمن الطوفان، أما سفينة الرسائل المصنوعة من الكلمات فتذهب بعيداً، بينما يبقى فاعل الكتابة هنا، لا يبرح المكان.
(كاتب سوري)
______
*السفير

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *