أدباء “فيسبوك”

(ثقافات)

 

أدباء “فيسبوك”

* يحيى القيسي

ما من وسيلة تواصل اجتماعي إلكتروني نالت شهرة “الفيس بوك” عند الكّتاب والإعلاميين والمثقفين وبقية جمهور القرّاء إضافة بالطبع إلى العشاق والباحثين عن الأحلام، وبائعي الأوهام، والعابرين في كلام عابر أيضاً . .!

ولا أريد المرور هنا على الفوائد التي يجنيها الأدباء المبدعون الحقيقيون من عرض كتبهم، والترويج لمقالاتهم، والتواصل المباشر مع القراء المعجبين بأعمالهم، إنما أود أن أتناول ظاهرة جديرة بالانتباه تتعلق بالعدوى للكتابة التي انتقلت إلى عدد كبير من أصحاب هذه الصفحات الذين هم بلا موهبة أدبية أساساً، بل بدأوا يروجون لبعض الكتابات المتهافتة، والعبارات المجترة، والقص واللصق من هنا وهناك، وغالباً ما يكون الحقل المُستباح “الشعر” الذي ليس له من يحميه، فيتفرق دمه بين العابثين وأنصاف الكتبة وأرباعهم، وهذا الأمر يكاد يكون حكراً على فئة من النساء من دون الرجال، ويتصادف بالطبع أنّ فضاء “الفيس بوك” قد أفرز أيضاً أمراضه، وبدت أعراضه الجانبية في تنطع عدد من أنصاف الكتبة الذين يتربصون بهذه الكتابات الباهتة، ويبدأون بالترويج لها، والنفخ فيها، وإشعار صاحبتها بأنها “شاعرة” لا يشق لها غبار، وهنا أتذكر عنوان مجموعة قصصية هي “المتحمسون الأوغاد” للكاتب الأردني الراحل محمد طملية فلا أجد وصفاً يليق بهؤلاء أبلغ من ذلك .

لكن المأساة لا تكمن ببقاء تلك النصوص حكراً على هذا الفضاء الإلكتروني الذي يختلط فيه الغث بالسمين، بل تتحول إلى كتب، سُرعان ما يتحمس لها آخرون بالنشر والترويج وحفلات التوقيع، وإدخال صاحبتها أو صاحبها في “نادي الأدباء”، والتزاحم فيه مع مبدعين حقيقيين لهم كتب كثيرة، بل ربما تدرّس “إبداعاتهم” العظيمة للطلبة، ثم ينتهي الأمر بمتحمسين آخرين لإقناع صاحب هذه الكتاب “الفيسبوكي” بالدخول إلى عضوية الروابط والمنتديات وبالتالي المشاركة في الأمسيات، والمزاحمة الحقيقية في الواقع العملي مع الذين أسهروا لياليهم وأعطشوا نهاراتهم في القراءة والتحليل وفعل الكتابة المضني، وهذا مدعاة للإحباط إضافة إلى أنه يساهم في تضليل القراء المحايدين الذين لم يعد بإمكانهم التفريق بين الكاتب المبدع والمدعي .

أستذكر في هذا السياق مثالاً لشاعرة “فيسبوكية” لبنانية شاركت قبل أشهر قريبة في مهرجان للشعر نظمته رابطة الكتّاب الأردنيين، حيث استضافتها فضائية “رؤيا” للحديث عن تجربتها وقراءة نماذج منها للمشاهدين “الأعزاء” بصفتها ضيفة من دولة شقيقة على مهرجان لرابطة الكتّاب، ويمكن القول باختصار إن ما ظهر لنا من اللقاء يشير بشكل صارخ لنا وحتى لأي شخص يستطيع أن “يفك الحرف” بأن تلك المرأة الرقيقة والجميلة لا علاقة لها بالشعر، ولا حتى بكتابة الإنشاء المدرسي من قريب أو بعيد .

إن النشر الإلكتروني الخاص عبر الصفحات الشخصية في فضاء مثل “الفيس بوك” والذي باجتهاد من صاحبه أو صاحبته يصل إلى آلاف من المُتصفحين لا يعطي الحق بالتماهي بين الكاتب وقارئه، ولا يجعل الأديب والمدعي في صف واحد، ففي النهاية لا بد أن يتم الفرز بين القمح والزوان، رغم غياب النقاد، واختلاط الحابل بالنابل، والتضليل الذي تتم ممارسته من قبل بعض الأسماء، ومنها ما هو معروف للأسف، وله كتب، وأدرك شيئاً من حرفة الأدب والموهبة، لكن لأسباب غير إبداعية، وللبحث عن مكاسب شخصية وعلاقات خاصة يقوم بتبني بعض الشعراء والشاعرات أو القصاصين والقصاصات، حتى لا يظن أحدكم أني أتقصد الهجوم على الشاعرات الجديدات، فكم من النصوص الإنشائية الضعيفة تحت مسمى “خاطرة” صار لها من يروج ويدافع وينشر ويتابع، والأدهى بعد كل ذلك أنه يريد منا أيضا أن نصدق هذه الفقاعات ونساهم بالتطبيل لها .

ما يعزي المرء أن مثل هذه الظواهر كانت من قبل الفضاءات الإلكترونية أيضاً، فكم من موهبة غضّة تم النفخ فيها من قبل متحمسين أوغاد آخرين في العقود الماضية قبل ظهور الانترنت، ولكنها اليوم لا وجود لها، فالإبداع في النهاية حالة متوهجة لا يمكن منحها أو تغطيتها، والمغانم الصغيرة، ودغدغة المشاعر، والدعم الخادع، لا بد أن يزول أثره ولو بعد حين، فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض .

_______

* روائي أردني ورئيس تحرير “ثقافات” /الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *