شعرة معاوية وصخرة سيزيف


*أدونيس

( ثقافات )

– 1 –
شاركت الولايات المتّحدة والدّول الأوروبية في صنع «الربيع العربي»، لكن، وهذا ما تؤكّده التجربة، لأسبابٍ كثيرة تهمّها مباشرةً. بين أكثرها دلالةً، الأسباب التالية:
1 – أن يظلّ العرب كما هم، مأسورين، سياسيّاً وثقافيّاً، في لعبة السّلطة، وفي ميدانها المباشر.
2 – أن يزدادوا بُعداً عن القضايا الكبرى: المشاركة الخلاّقة في بناء العالم الحديث، حقوق الإنسان وحريّاته ومن ضمنها حقّ التغيُّر والتقدُّم، حقوق الاستقلال والسيادة.
3- تعميق النّظرة الغربيّة السائدة إلى العرب؛ فهي ترى أنّ العرَب ليسوا إلاّ «ركاماً» من البشر، وإلاّ «سوقاً استهلاكيّة»، وإلاّ «فضاءً استراتيجيّاً». ثرواتهم نفسها لا يعرفون كيف يستخدمونها، مدنيّاً وثقافيّاً وحضاريّاً؛ وهي في المحصِّلة «مُلْكٌ ضخمٌ فاشلٌ». وحيث يُنتَظَر منهم أن يفعلوا شيئاً أو أن يقولوا شيئاً يؤكِّد حضورَهم وفاعليّتهم، وأشير هنا، خصوصاً إلى فلسطين، يصمتون وينكفئون. ولئن كان صحيحاً أنّ «الخروج من أوروبّا هو خروجٌ من التاريخ» كما يقول الرئيس الفرنسيّ فرانسوا هولاّند، لمناسبة الاحتفال بعيد النّصر، فإنّ من الصحيح أيضاً أنّ محاولات إدخال العرب في التاريخ الغربيّ، على الطريقة الأميركية – الأوروبيّة، ليست دخولاً في التاريخ.
– 2 –
نادراً ما خرجتُ حزيناً ومُرهَقاً، من زيارة مُتحف، كما خرجتُ من زيارة المُتحَف الخاصّ بالهنود الحمر – (الأصحّ : ببقاياهم) في مانهاتان بنيويورك.
شعبٌ انقرض (الأصحّ : قُرِض)، وحُشِرَت آثارُه بين الجدران. تستطيع أن تتحدّث مع هذه الآثار كمثل ما كان الشاعر العربيّ يتحدّث مع الأطلال في صحرائه الشاعرة. وهي هنا آثارٌ فنّيّة تبدِعها يدٌ تتخيّل، ومخَيِّلةٌ تعملُ كأنّها يدٌ ثانية.
ترى الإنسانَ في أشيائه التي ابتكرها – لكي يُحسِن الحياة ويُحسِن فهمَ العالَم. أشياء ساحرة فريدة، بدءاً من أبسط أدوات الحياة اليوميّة، وانتهاءً بالأعمال الفنّيّة: مباهج الواقع، ومباهج التخيّل.
– 3 –
أدّت التجربة التّاريخيّة، ببُعدَيْها: الاستعبادي، اللاإنسانيّ، من جهة، والحياتيّ العمليّ، من جهةٍ ثانية، إلى نشوء مدى ثقافيّ وحضاريّ تمثّل في ما سُمّيَ «الولايات المتّحدة الأميركيّة». وهذه تحتضن الآن شعباً غنيّاً في ثقافته، وغنيّاً في تنوّعه وتعدّده، ومؤثّراً في العالم كلّه.
ولئن كان هذا الشعب قد أفاد نظريّاً من تجارب «الاكتشاف» ومن «الاستعمار» و «الإبادة»، فإنّ سياسات الأنظمة التي تعاقبت على قيادته، ظلّت مرتبطة، بشكل أو آخر، قليلاً أو كثيراً، بأصول الثقافة الاستعماريّة. ونادراً ما وقفَت هذه السياسات في تاريخها كلّه، إلى جانب حقوق الإنسان، وحريّات الشعوب، وسيادتها على نفسها ومصيرها، باستقلال كامل. وهي ممارسَةٌ يعرفها العالم غرباً وشرقاً – في أميركا الجنوبيّة، الجارة الشّقيقة، وفي القارّة الأفريقيّة، وفي الشرق الأقصى، وأخيراً في «القارّة» العربيّة. وهي الآن، في هذه القارّة تساند الطّغاة والمغتصبين والمرتزقة وأعداء الحرّيّة والديموقراطيّة. تساند بشكلٍ خاصّ ونوعٍ خاصّ، عدواناً على شعبٍ بكامله، أرضاً وهويّةً وثقافة، وأعني الشعب الفلسطينيّ، وهو العدوان الأكثر ظلماً في التاريخ الكوْنيّ الحديث: ليس ظلم استتباعٍ فحسب، وإنّما هو ظلمُ اقتلاع. وها هم العرب، اليوم، يتقلّبون من جديدٍ بين «رماد» السّلطنة العثمانيّة، و«جَمرِ» السياسة الأميركيّة – ( بين شعرة «معاوية» وصخرة سيزيف)، يتقلّبون – إلى أن يَحين موعدُ دخولهم إلى متحفٍ آخر، ينضاف إلى متحف «الهنود الحُمر».
– 4 –
كلاّ أيها الشعبُ الأميركيّ، ليس في رأس السياسة الأميركيّة شعرة واحدة للحكمة –
لا شعرة معاوية،
ولا شعرة ابراهام لنكولن،
ربما عليك أنت أيضاً أن تتهيّأ من جديد لكي ترفع صخرة سيزيف.
– 5 –
رأسي مليءٌ بالدروب، ولا يريد جسمي أن يتفرّغ لقراءتها. يفضّل أن يقيم حفلة راقصة لكي يحتفي بما يأتي. بين ما يأتي ذاكرةٌ تحبّ النسيان.
– 6 –
عجَباً للذاكرة العربيّة الحديثة:
بيتٌ عتيقٌ ضخم.
لا تتدلّى من سقفه، من زواياه وجدرانه،
من نوافذه وأبوابه،
إلاّ العناكبُ وخيوطُها.
– 7 –
جاء العصرُ لزيارتنا نحن العرب، حاملاً هدايا لا تُحصى:
بينها سيوفٌ قاطعة، ورؤوسٌ مقطوعة، وأعناقٌ تُهَيّأُ للقطع.
– 8 –
إنها سياستُنا العربية:
محيطٌ تبدو فيه العاصفة كأنّها هي نفسُها السّفينة.
إنّها السّلطةُ العربيّة:
إناءٌ مثقوبٌ
يسيل منه الدّم دون انقطاع.
– 9 –
هنا في نيويورك،
أستيقظ في ظلّ الهيئة الوارفة، هيئة الأمم،
وأرى العالم يحترق – بها، منها، فيها،
هيئةٌ لا تتنفّسُ إلاّ دخانَ الحرائق.
الخرائطُ نارٌ
والثّقافة حَطَبٌ وأفران.
يكفي أن تلبس هذه الهيئةُ وجوهاً وأقنعةً مُستَعارةً،
يكفي أن تُقلِّب جسمَها بين نارين، وبين شِواءين، وبين فكّين،
يكفي صمْتاً على امتهان الكائن العظيم: الإنسان،
كلاّ، لم تعُد الأرضُ تتّسع للمجازر.
وأنتِ، يا شمسُ يا شمس،
كلّ يومٍ يُسلَخ جلدُ الأرض،
ألَن تقولي لطوفان ضوئكِ
أن يطهِّر العالم؟
– 10 –
ما هذا الغرب الذي يرفض أن يعرف الشرق،
إلاّ كما يعرف الذئب فريستَه؟
ما هذا الشرق الذي لا يعرف الغرب َ
إلاّ كما تعرفُ الفراشةُ النّار؟
– 11 –
ماذا يفعل الشعب، والكراسي التي تتصارع لكي تحكم أكثرُ عدداً من أفراده؟
– 12 –
تلك القافلة العربيّة الطّويلة التي ينتظرها القرن الحادي والعشرون،
ماذا يمكنني أن أفعل لكي أجعلها تتجرّأ، وتعبر القرون العثمانية؟
وما هذا العصر:
الموتى فيه جنودٌ
والأشلاءُ رايات.
وما هؤلاء البشر الذين ينهمكون في بناء معسكرات اعتقالٍ، احتفاءً بالأزمنة الآتية؟
– 13 –
لو أنّ للوردة يداً،
هل كانت تمدُّها لتصافح الماء ؟
– 14 –
لكن، لكن،
أتجنّب الحِدادَ على ما مَضَى
وأمسِك بيد الفجر لكي يدلّني
على شمسه الثانية التي تتهيّأ للشروق.
– 15 –
كلُّ دروبي التي كانت تتّجه نحو السماء،
حَرَفَتْها خطواتي في اتّجاهاتٍ أخرى.
منذ أن أعَدَّ القتلُ آلاته الباذخة،
وأخذ يجتاحُ الحدودَ،
أخذَ اللصوصُ يبتكرون الأعيادَ
والأناشيدَ الوطنيّة.
العبوديّةُ في أوج ربيعِها:
ترسم الفضّةُ خرائطَ جديدةً للإبادات
– 16 –
يبدو أنّ طريقي لا تزال تبدأ في التّيه،
يبدو أنّ قدميَّ لا تزالان تضطربان في فِخاخ المعنى.
– 17 –
يُصنَعُ للتاريخ كرسيٌّ نقّالٌ من طرازٍ متقدّمٍ وخاصّ.
– 18 –
نعم سأغيّر تكوينَ الطرُق التي أسلكها
سيكون صعودُها سلالمَ
وسوف يكون هبوطها أجنحة.
وأعرف أنّ الشوارعَ ليست آفاقاً، لكنّها ليست أنفاقاً.
الشوارعُ بيوتٌ في أشكال براميل،
تتدحرج مليئةً برمل الأسماء.
– 19 –
شوارعُ نيويورك: معاركُ مفتوحةٌ بين أبناء البشر. معاركُ متواصِلة – تنافساً حيناً. تنافِياً، حيناً آخر. أمشي، تسبق خطواتي أفكارٌ تتنقّل أمامي كمثل عرباتٍ مثقَلةٍ بأشياء متناقضة، لكن دون تنافرٍ.
نارٌ في يدٍ،
ماءٌ في اليد الثّانية: سلامُ النّقيضين.
– 20 –
لكن لماذا لم أكتب حتّى الآن، عن تلك الزّهرة التي وُلِدت من دمِ أدونيس: شقيقة النُّعمان؟
وماذا يمكن أن يُكتبَ عنها – هي القصيدةُ الأولى؟
_______
*الحياة

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *