مأزق الكتابة الصحفية


*شوقي بزيع

ترك غياب الكاتب والناقد اللبناني نزيه خاطر فراغاً يصعب أن يملأه أحد، ولا سيما في مجالات النقد المسرحي والتشكيلي والأدبي . ليس فقط بسبب الثقافة العميقة والمتنوعة التي كان يمتلكها الناقد الراحل، ولا بسبب موهبته وذكائه المتقدين فحسب، بل بسبب الخبرة الطويلة في مجال الكتابة الصحفية التي تجاوزت في مساحتها الزمنية العقود الأربعة .

لقد بات خاطر الذي عمل في ملحق “النهار” اللبنانية بطلب من أنسي الحاج في ستينات القرن الماضي، ثم في صفحتها الثقافية بعد ذلك، أحد صانعي الثقافة والفن في لبنان الحديث، وكانت مقالة واحدة منه تكفي لتكريس هذا الفنان المبتدئ رساماً، وذلك الفنان الصاعد ممثلاً أو مخرجاً مسرحياً، وكانت مقالة أخرى تكفي لإصابة آخرين بالإحباط، أو حثهم على تطوير تجربتهم الإبداعية ودفعها نحو الأفضل .
لكن الأمر اللافت والمستهجن في هذا السياق أن الناقد الراحل لم يترك وراءه أي أثر مطبوع ولم ينشر أياً من مقالاته التي لا تحصى في كتاب مستقل . لن يتمكن بهذا المعنى أي باحث أو طالب جامعي يشتغل على النقد المسرحي والتشكيلي أن يفيد من نتاج خاطر الغني والمتميز، خارج أرشيف الجريدة التي عمل في قسمها الثقافي .
ولم يكن الأمر مختلفاً أيضاً مع الكاتب والناقد الموسيقي الراحل نزار مروة الذي عمل في مجلات ودوريات ثقافية عدة، مثل “الطريف” و”الثقافة الجديدة” و”النداء” وغيرها، تاركاً وراءه هو الآخر مئات المقالات والأبحاث والأعمدة، وكانت الموسيقى في رأس اهتمامات مروة وأولوياته بحيث اعتبره الفنان الراحل عاصي الرحباني الناقد الموسيقي الوحيد في لبنان ومع ذلك فلم يعمد نزار إلى نشر مقالاته في كتاب أو كتب مستقلة، ولو لم يعمد الناقد والكاتب الراحل محمد دكروب إلى جمع مقالاته في الموسيقى ونشرها قبل عشر سنوات لكان القراء والمهتمون بهذا الفن غير قادرين على الإفادة من ثقافته الموسيقية العميقة، كما أن المفكر السياسي اللبناني كريم مروة عمد قبل أسابيع إلى جمع مقالات متنوعة لقريبه الراحل، وأضاف إليها نبذة من سيرته الحياتية والأدبية والسياسية، ثم نشرها في كتاب جديد بعنوان “نزار مروة في عوالمه الثقافية وفي دروب حياته” .
على أن هذين النموذجين لا يحتلان في الواقع سوى جزء من الصورة، في حين أن الجزء الآخر يذهب إلى خيار مناقض تماماً لخيار الامتناع عن إصدار المقالات الصحفية في كتب جامعة . ومن يتردد إلى المكتبات العامة ومعارض الكتب العربية سيرى بأم العين نماذج كثيرة من المؤلفات المنشورة التي تم تلفيقها بشكل فاقع أو جمعها على عجل، بغية الانضمام إلى أسرة الأدباء أو اتحادات الكتاب، أو تحقيق النجومية أو الفوز بواحدة من الجوائز الأدبية السخية .
أعرف في هذا الصدد صحفيين كثراً لا يترددون في جمع كل ما كتبوه في صحفهم ونشره، دون استثناء، في كتب مرتجلة تجاوز عددها العشرات، وهناك من يجمع الحوارات التي يجريها مع السياسيين أو الفنانين المبدعين وينشرها على الملأ من دون غربلة أو تمحيص .
لكن الإجابة عن “معضلة” نشر المقالات الأدبية والصحفية في كتب مستقلة أو عدم نشرها ليست سهلة بأي حال، خاصة وأن المسألة تتعلق بمئات الكتّاب والمبدعين العرب الذي يعملون في الصحافة الثقافية وغير الثقافية، والذين يكتبون مقالات أسبوعية، أو يومية أحياناً، سيجدون أنفسهم حائرين بما يكتبونه في الصحف، وما يمكن له أن يشغل عشرات الكتب في حال دفعه إلى المطابع، لا أحد بالطبع يملك أن يتخذ قراراً بالنشر أو عدمه سوى الكاتب ذاته الذي سيجد نفسه بين خيارين أحلاهما مر: إما المجازفة بإصدار كتب جديدة لا ترقى إلى مستوى طموحه الجوهري، وإما التحديق حائراً في هذه الجبال الصغيرة من المقالات التي ستظل رهناً للرطوبة والإهمال والنسيان .
_______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *