الإيرانية آذر نفيسي تكتب سيرتها المكتومة


*أحمد زين الدين

تميّزت الكاتبة الإيرانية آذر نفيسي منذ روايتها الممتعة «أن تقرأ لوليتا في طهران» بأسلوبها السردي السلس الذي تستعيده في مذكراتها اليومية «أشياء كنت ساكتة عنها» (دار الجمل، ترجمة علي عبد الأمير صالح). تنهل الكاتبة موارد مذكراتها وروافدها من حياتها الشخصية والعائلية المفعمة بالأحداث والمعاناة والأحلام المجهضة في مرحلة حاسمة ومضطربة في بلدها الذي شهد نهاية حقبة الملكية، وبداية حقبة الثورة الإيرانية، وما تركته من أثر على حياة عائلتها البورجوازية ذات المكانة الرفيعة. فوالدها كان يتقلّد منصب محافظ طهران الذي أهّله لأن يكون على دراية بما كان يحيط بحاشية الشاه محمد رضا بهلوي، من وشاية ودسائس. لكن الكاتبة التي روت ظروف اعتقال ابيها ما قبل الثورة ومحنته في السجن، لم تدوّن التاريخ الحديث لإيران وتحوّلاته السياسية والاجتماعية، إلاّ من خلال عينها وهواجسها. وفي هذا المقام تقف طويلاً عند تجربتها من الحكم الديني الذي استولى على مقاليد السلطة، وحاول اقتلاعها مثل سائر النساء من وضعيتها الانسانية، وثقافتها العلمانية التي نشأت عليها، وتطبيعها بثقافة دينية متزمنة.

تقارب آذر نفيسي الماضي بوصفه فجوات يجب رتقها، لذلك غطّت سيرتها بالوقائع والذكريات والمرويات، كما بالمتخيل والموهوم والقصص المخترعة في طفولتها، بتأثير من حياتها في كنف عائلة مثقفة ومولعة بقراءة الروايات.
ما يميّز الكتاب هو الحكي الذي سكتت عنه في روايتها الأولى، فالحُرم الذي ضُرب على الكثير من الشؤون الشخصية وعلى حرية التفكير والتعبير إبان الثورة الإسلامية، هو الذي أرغمها في كتابها السابق على ان تتبنى التورية والتلميح وكل طرائق التملص من عيون رقباء الفضيلة الكثر.
ولعلّ فضاء الغرب الذي تعيش في ظله الآن أطلق العنان لنفسها وقلمها، وشجعها على البوح بما أُجبرت على ان تصمت عنه سابقاً من أحداث عامة ومواقف شخصية.
ترسم الكاتبة بيومياتها الخطوط المتقاطعة بين السيرة الشخصية والسرد التاريخي العام. وإذا كانت تناولت في «أن تقرأ لوليتا في طهران» حقبة الثورة الإسلامية وما اعقبها من أحداث، ففي «أشياء كنت ساكتة عنها» تعود إلى الفترة التي سبقت الثورة وإرهاصاتها الأولى. وتستعيد أجواء عائلتها من مخطوطة تركها والدها لها، كان قد كتم بعض أسرارها في سيرته الذاتية التي كان قد طبعها في حياته. سيرة تمثل أباً نشيطاً ومثابراً وطموحاً منذ شبابه، وذا أهواء نسائية. وزوجة متعالية كانت تُغطي احساسها بالخيبة، بادعاء ان الدهر ظلمها وأضاع عليها الفرص.
السيرة المكتومة
ينطوي كتاب نفيسي على صور فوتوغرافية من الماضي نصلت ألوانها، تقرأ فيها المؤلفة ملامح أصحابها وأبعادها النفسية وانطباعاتها حول ظروف تصويرها. وتكشف خفايا العلاقة المثلثة بينها وبين أمها وأبيها.
تذكر نزوات أمٍ عاشت وهي تصنع روايتها الشخصية التي تسردها على مسامع البنت التي كانتها آذر نفيسي. هي رواية منسوجة من خيالات الأم وهواجسها وشعورها بتفوق موهوم. حاولت نفيسي في ما بعد، من دون جدوى، ان تتملص من أحابيل سردها ومن محاولة التفريق بين الخيط الواقعي والخيط المتخيل المتواشجين في لحمة واحدة. ولم تكن رواية الأم عن نفسها تكمن في ما قالته، بل في ما أهملته. كانت الأم تحوّل التاريخ إلى فانتازيا، وتزيد بذلك من ضبابية صورتها وغموضها في ذهن البنت. وتدفعها الى عقد حلف مضمر مع والدها الذي تزداد إعجاباً بنجوميته، ضد تسلط الأم المزعوم.
تذكر نفيسي ان نزوات أمها جعلتها في طفولتها تلوذ إلى عالم اكثر حرية، هو العالم المتخيل المبتكر الذي سبق لأبيها أن وطّد طريقه لتنفذ اليه، عبر اختلاق القصص الملفقة او المستوحاة من التاريخ الايراني التي كان يسردها على مسامعها. طريق تحول في حياة الكاتبة مع انقضاء الأيام إلى شغف بالرواية. كانت الروايات منبع استيهاماتها التي تصنع من خيوطها عالمها السري الذاتي. وقد حملت هذا العالم كما وصفته بدقة وتفصيل في كتابها «أن تقرأ لوليتا في طهران» إلى طالباتها في الجامعة.
كان العالم المتخيل مختلفاً ومدهشاً مقارنة بذلك العالم الذي كانت تعيش فيه. تعلمت ان ما وهبها أياه ابوها من خلال قصصه خطّ حدوداً لا مرئية تصنع منها وطناً غير الوطن الذي فرضه المتشددون الثوريون. وطناً لا يعتمد على الجغرافية او القومية، ولا يقدر احد أن ينتزعه منها.
بيد ان الهاجس الذي ما فتئ يلاحق الكاتبة هو هاجس وضعية المرأة في بلدها طوال الحقب السياسية والاجتماعية التي توالت عليه، منذ عهد جدّتها التي شهدت الثورة الدستورية عام 1905 وما حققته من تقدم نوعي في حياة المرأة الايرانية. وبعدها الأم التي انتُخبت نائبة في عهد الشاه محمد رضا بهلوي. وحقبة الكاتبة التي شبّت في عهد الثورة التي أرغمتها وأرغمت نساء ايران على العودة الى قوانين قهر المرأة. وكانت قصائد فروغ فرخزاد الجريئة معينها لمواجهة السلطة الدينية الجديدة التي تحاول ان تنتزع منها حريتها.
اللاوعي الإيراني
تبلور وعي الكاتبة الوجداني والسياسي برجوعها الدائم الى «الشاهنامة»، ملحمة الفردوسي، التي تحاول استرداد ماضٍ لا يمكن استعادته. فالشاهنامة نص أساسي في اللاوعي الإيراني الذي شكّل ثقافة الشعب بفئاته كلها. وكان أبوها يذكر امامها ان بلاده تعرضت إلى حروب وفتوحات عدة، وأن مقداراً من الوعي القومي الايراني استند إلى الوجدان المناهض للعرب منذ الفتح الاسلامي، من دون ان ينسى التواطؤ الداخلي الذي شرّع أبواب الامبراطورية العظمى عهد ذاك امام المحتلين. ولكن، بعد الثورة الإسلامية، كانت تعود نفيسي مراراً لتقتفي أثر الخيط اللامرئي في عقلية الايرانيين الذي أفضى إلى تأسيس الجمهورية الاسلامية الحديثة، وتجده في نزعة التعصب الأعمى الذي رافق الشعب الايراني من قبل.
طهران في عهد طفولتها كانت مستغرقة في مظاهر الحياة الأوروبية التي كانت أليفة عند الطبقة الراقية بوصفها جزءاً من ايران الحديثة. بيد أن طهران لم تكن طهران نفيسي وطبقتها، كانت ثمة طهران أخرى متزمتة وممتعضة، غارقة في عزلتها، ترفض الانفتاح وتتجنب الأقليات الدينية من ابناء البلد، متجاهلة مفردات المعاصرة وحداثة الأفكار والعادات. وكان يسود بعض أوساطها الرياء والنفاق الذي تذكر نفيسي بعضاً من وقائعه.
إيران الدولة كما تجلوها الكاتبة منذ عهد القاجاريين إلى هذا الزمن، هي على حافة الاختبارات السياسية والعسكرية والاجتماعية المتواصلة. اما الصورة الثابتة عنها اليوم فصورة خادعة للنظر. والايرانيون الذين يتشبثون بماضيهم لا ينسون عواقب هزيمتهم التاريخية، ويتحينون الفرص للثأر واستعادة مجدهم الغابر. أما ما كان يبدو للعيان من ان سلطة الشاه كانت متماسكة، فهي في رأي نفيسي ليست كذلك، انما كانت منشطرة إلى وجهين متصارعين: امبراطوري وعقائدي. وفي نظرها يتكافأ حكم الشاه وحكم الثوريين في تعاملهما مع المعارضة السياسية باعتبارها دوماً ومن دون تفرقة شكلاً من أشكال الجريمة والخيانة. ما تعلمته نفيسي أن الحقيقة في السياسة الايرانية لا وزن لها، بل المعيار والأساس يُبنى على الفكرة المسبقة.
________
*الحياة

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *