في دور الثقافة


* عناية جابر

كثيراً ما نقرأ لدى الباحثين الاجتماعيين والمفكرين العرب ‘ الإيجابييين’ أفكاراً تتصدى لإشكالية ‘ تخلف’ المجتمع وتطوره المشوه. قد وجد أصحاب هذا التيار ضالتهم بالثقافة الثابتة التي لم تتحوّل ولم تتعرض، كغيرها، لأي نقد جدي. فالمستوى السياسي واستبداده ليسا العامل الوحيد. والدليل عندهم هذه الحركة التي تتكرر باستمرار وتعود الى نقطة البدء. ففي كل مرة يحاول المجتمع أن يغيّر ما في استبداده تراه يعود اليه من جديد ولو بقوى سياسية مغايرة. هناك إذن ممانعة في تركيبة المجتمع نفسها إزاء اشكال التحديث لا بل مقاومة له منظمة وغير منظمة أساسها الثقافة القديمة. من هنا ضرورة القيام بحملة توعية موسعة تقنع الناس بخطل ما هم فيه وعظمة ما يرفضون. الحملة هذه تتضمن العمل على عدة محاور أهمها وعلى رأسها العمل التربوي حيث للمدرسة وللنقد دورهما الجلل. 

لا يمكن بحسب هؤلاء الباحثين والأكاديميين والعلماء نجاح عملية التحديث بدون العمل على ثقافة الناس وتصوراتهم عن الكون. لا بد إذن من عمل تربوي يحاول أن يساعد على بلورة وعي جديد يأخذ بال’ حقائق’ الكونية. وهل هناك أفضل من المدرسة أو أقدر للعب هذا الدور التأسيسي ؟ المدرسة في هذه النظرية واسطة عقد النظام الإنتقالي بين القديم والحديث. هي لؤلؤة البناء الجديد التي تبنى الآمال عليها. فمن دون تربية جديدة يبقى الناس أسرى التصورات الثقافية السابقة المسؤولة عن التخلف. فالمدرسة الجماهيرية أمست ممراً إجبارياً لغالبية السكان ولا سيما الشباب منهم. فإذا استطعنا استعمالها بنجاح وطعمّنا الطلاب بالوعي الجديد والتربية الحديثة تمكنّا أغلب الظن من التغلب على التخلف والماضي.
التربية في المدرسة والنقد في الساحة الثقافية دواء التخلف والانعتاق من الماضي. التقدم شرطه الشارط الثقافة الجديدة. بدونها سيبقي الناس يتحركون ويثورون بدون الخروج من أسر الماضي ودوائره. إذ لا يكفي في عرف الكثيرين ان تثور الشعوب إذا ما بقيت اسيرة اسئلة وأجوبة ماضيها. في عرف هذا التيار أن المشكلة تنحصر إذن بالثقافة المتقادمة وبالوعي القديم للعالم والكون وبتصورات مضى عليها الزمن. وأن الحل يكون باستبدال ثقافة باخرى بواسطة التربية والتبشير بوعي جديد. نغيّر وعي الناس فيتغير كل شيء. 
لنسلم جدلا أن الثقافة هي فعلاً المسؤولة الوحيدة عن هذه المشكلة وأنه لا بد من بذر الثقافة الجديدة في المجتمع، لكن ألا تقوم قناعة كهذه على افتراض حيادية قوى العمران البشري، بمعنى أن القوى الاجتماعية المسيطرة حالياً، وحتى غير المسيطرة، لا تملك إزاء هذه النية الطيبة اي اعتراض أو مقاومة. هل ستلتزم الحياد خلال المرحلة الإنتقالية لكي يقوم التربيون الجدد اصحاب الثقافة الحديثة بعملهم على نحو طبيعي ؟ قناعة كهذه تفترض ليس فقط حيادية من يستفيد حالياً من الثقافة القديمة بل هي تفترض أيضاً انخراطاً واضحاً منها في العملية الإنتقالية ذاتها. فمن سيقوم بتعيين الاساتذة ويعدّ البرامج التربوية الجديدة التي تحمل الوعي الجديد ؟ 
والحال فإن فضل هذه المدارس الفكرية والثقافية عن غيرها اعترافها بوجود مشكلة مسبقة بنيوية تعيق الإنتقال الى مجتمع سياسي حديث وديمقراطي. فيما تقوم المدارس الأخرى على العمل على التغيير والخوض فيه بعيون مغمّضة حتى اذا ما اصطدمت بالمشاكل على الأرض عادت إلى الوراء تحت ضغط الحدث وبدأت تتساءل عن أسباب الكارثة التي أدخلت نفسها والناس والمجتمع ككل فيها. فمن يعترف بوجود معيقات بنيوية مسبقاً لا يخاطر مثلاً بإدخال المجتمع في حروب لا أفق لها ولا تتيح التقدم والتطوير. وهو لا يخاطر مثلاً بإطلاق قوى ‘ تغييرية ‘ لا يستطيع هو نفسه حتى التعايش معها ولا بينها، ولا يستطيع حتى تفسير نشوئها وتمددها وسيطرتها بدون اللجوء إلى تفسيرات مؤامراتية كان من أشد المناهضين لها ولنظريتها. 
غير ان هذا الفضل يتوقف ههنا لا سيما وأن نموذجه للحل يفترض مشاركة المسؤولين عن المشكلة. فكيف يمكن إقناع قوة اجتماعية ما مستفيدة من سيطرة هذ الثقافة على وعي الناس أن تساعدنا على قطع باب رزقها بيديها ؟ كيف يمكن للمدرسة ان تصبح مدرسة لإعداد وبلورة فكر وطني موحِد وموحَد وهي مدرسة فُتحت أصلاً من اجل ‘بيع′ القديم وسلعه الثقافية ؟ 
مشكلة هذا النوع من الفكر، الذي يعوَل على التغيير بالثقافة، هو تأرجحه بين تيار يظن أن بإمكانه القيام بفرض الثقافة الجديدة بالتمرير والتسلل، أي عبر أخذ المجتمع بجماعاته على حين غرّة، وبين تيار يعتقد بحيادية هذا المجتمع الإيجابية إزاء التقدم. وطالما أن المجتمع لا يؤخذ بالحيلة، كما يخبرنا التاريخ، ولا بالتعاطي الطوباوي فإن حل المشكلة يجب ان يكون في مكان آخر لأن المشكلة هي أيضاً في مكان آخر. فمن غير المعقول أن نطلب من الناس الانتقال إلى وعي آخر لم يصبح بعدُ حاجة وضرورة موضوعية لدى هذا الجمهور. بل من غير الممكن أصلاً ان تكون المشكلة منحصرة في الثقافة، ثقافة الناس. فمن قرر أن الناس تعاني من ثقافتها كمشكلة رئيسية ؟ 
لا يعاني هذا النوع من الأفكار فقط من أزمة إجرائية تتمثل في عدم قدرتها على تطبيق أفكارها وعجزها عن إيجاد القوى التي تتيح تجسيدها على الأرض، بل من تعيينها للثقافة كسبب للمشكلة. فالقول هذا يحدّ من النظر إلى أبعاد ‘ التخلف ‘ بمجمل عناصره الداخلية والخارجية ويجعله أسير بعد واحد لا يملك أصلاً القدرة على التأثير فيه بحرية. فهو في الوقت الذي يطلب فيه من الناس بكل بساطة وصراحة أن تتخلى عن عقائدها لقديمة مقدمة للحل، نجد بالعكس أن الناس تزداد تعلقاً وتشبثاً بهذه العقائد. النتيجة العكسية دليل التشخيص الخاطىء أغلب الظن. 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *