نصوص ماري ندياي: «ثلاث نساء قويات»


*تقديم وترجمة: محمد المزديوي

تعتبر ماري ندياي، الروائية والقاصة والكاتبة المسرحية الفرنسية، التي ولدت سنة 1967، من أصول سنغالية (الأم فرنسية والأب سنغالي)، من أهم المعبرين عن الحساسية (أو الكتابة) الجديدة في الرواية الفرنسية. وعبرت عن نضج كبير منذ أعمالها الأولى، حيث اللغة القوية والمواضيع الصادمة، إضافة إلى روح الابتكار، دون نسيان الدفاع المستميت عن الأجانب والغرباء والاختلاف… ولم يَسْلم الرئيس ساركوزي، في بعض مواقفه المتشنجة والطائشة من المهاجرين والغرباء، من هجماتها التي لا تهادن. وجاءها التتويج المبكر بحصولها المستحق سنة 2001 على جائزة فيمينا، ثم حصولها سنة 2009 على جائزة الجونكور الفرنسية (أهم جائزة أدبية فرنسية)، عن روايتها «ثلاث نساء قويات»، ثم وُلوج مسرحية لها إلى الكوميديا الفرنسية، أعرق مسرح فرنسي على الإطلاق.

وقد أقامت في ألمانيا، «هربا» (كما صرحت لمجلة ليزانروكيبتيبل الثقافية) من وصول نيكولا ساركوزي للسلطة في فرنسا. ولكنها تعود إلى فرنسا، من حين إلى آخر، بعد أن رفض الفرنسيون تجديد ولايته الرئاسية.
وهنا ترجمة لمقاطع طويلة من رواية «ثلاث نساء قويات» للروائية ماري ندياي، التي ستصدر ترجمتها العربية، قريبا، إن شاء الله. 
[من الجزء الثاني 
(من الصفحة 95 إلى الصفحة 101)]
طيلة الصبيحة، مثل بقايا حلم مضن ومذل، لم يفتأ يفكر أنه كان من الأفضل لو لم يحدثها على النحو الذي فعل، من أجل مصلحته، ثم بعد شد وجذب في عقله القلق، تحولت هذه الفكرة إلى يقين في حين انتهى به الأمر إلى ألا يتذكر جيدا سبب الشجار ـ هذا الحلم المضني والمذل الذي لم يتبقّ منه سوى أثر طعم مليء بالمرارة.
لم يكن عليه أبدا أن يحدثها على النحو الذي فعل ـ هذا كل ما يعرفه الآن عن ذاك الخصام، هذا هو ما يمنعه من أن يركز من غير أن يستطيع أن يأمل الاستفادة آجلا من ذلك، عندما سيدخل إلى البيت ويجدها، هي.
لأنه ـ تساءل مرتبكا ـ كيف سيسكن ضميره إذا كانت كل تذكراته، التي حذفت منها صراعاتهما، لا تظهر سوى ذنبه هو، دائما وأبدا، تماما كما يحدث في الأحلام المضنية والمذلة حيث، مهما قلنا، ومهما قررنا، نظل مخطئين بشكل لا رجعة فيه؟
وكيف ـ فكر أيضا ـ يستطيع أن يهدئ نفسه ويصبح رب أسرة موثوق إذا لم يتوصل إلى أن يسكن ضميره، كيف سيستطيع أن يجعل نفسه محبوبا من جديد؟
لم يكن عليه حقا أن يحدثها على النحو الذي فعل، ليس من حق أي رجل أن يفعل.
لكن السبب الذي دفعه إلى ترك شفتيه تطلقان كلمات لا يجب أن ينطق بها رجل من أشد رغباته أن يصبح محبوبا كما من قبل، لا يبدو له واضحا، كما لو أن تلك الجمل الفظيعة ( ماذا كانت بالضبط ؟ ) انفجرت في رأسه، و هدت كل ما تبقى.
هل من العدل إذن أن يحس أنه ملام إلى هذا الحد؟
لو كان فقط يستطيع أن يثبت أمام محكمته الداخلية أنه يتوفر على أسباب معقولة تجعله يغضب إلى ذلك الحد، لكان بمقدوره أن يندم على انفعاله باعتدال وكان طبعه سيهدأ تبعا لذلك.
بينما لم يفتأ خجله الحاضر والمتهيج يدفعه إلى الحنق.
آه، كم كان يتوق إلى السكون، والهدوء!
لماذا يحس، بينما الوقت يمر والشباب الجميل يبتعد عنه، أنها وحدها حياة الآخرين، كل الآخرين حوله، تتقدم بشكل طبيعي على طريق منقشع يضيئه نور أخير بأشعة دافئة وحنونة، الشيء الذي يسمح لهم، لكل هؤلاء الرجال في محيطه، بتخفيف حذرهم وتبني موقف مرتاح تجاه الحياة، موقف لاذع بطريقة لطيفة، لكن مشبعا بوعي رزين مفاده أن علما أساسيا آل إليهم مثمنا ببطن لين ومستو، وشعر موحد، وصحة جيدة.
هو، رودي، كان يدرك طبيعة ذلك العلم، رغم أنه كان يرى أنه يتقدم بجهد في طريق لا يستطيع أي نور أخير أن يخرق كومة الدغل الكثيف الذي يغطيه.
كان يظن نفسه يفهم، من عمق ضعفه، التفاهة الأساسية للشيء الذي يعانيه، ومع ذلك، لم يكن يستطيع أن يستفيد من ذلك الحدس، تائها كما كان في هوامش الحياة الحقيقية، تلك التي يمتلك كل شخص القدرة على أن يزنها.
على نحو، كان يقول في نفسه إنه، هو رودي دسكاس، لم يصل بعد، رغم سنينه الثلاث والأربعين، إلى ذلك الاتزان المرح والظريف، إلى تلك السخرية الوديعة التي يرى أنها تطبع أفعال الرجال الآخرين الأكثر بساطة وأقوالهم الأكثر اعتيادية، كان يبدو له أنهم، جميعهم، يخاطبون، أطفالهم بهدوء وعفوية، يقرأون الجرائد والمجلات باهتمام ساخر، يفكرون باستمتاع في غذاء الأحد المقبل مع الأصدقاء، والذي من أجل إنجاحه يجهدون أنفسهم بسخاء، وابتهاج، دون أن يبذلوا مجهودا ليخفوا أنهم بالكاد هم خارجون للمرة السبعين من تشاجر من أجل أمور تافهة، من حلم مضن ومذل. لأنني في تدهور كبير.
لا شيء من هذا القبيل كان متأتيا له أبدا.
ولماذا إذن ـ كان يتساءل ـ لماذا؟
ألا يكون قد تصرف جيدا في وقت ما وفي حالة ما حيث يكون مهما أن يكون المرء في مستوى المصيبة أو الفرح، هو مستعد للإقرار بذلك، لكن ماذا كانت المصيبة، أين كان الفرح في الحياة المختزلة التي يحياها مع أسرته، وما هي الأوضاع الخاصة التي لم يستطع مواجهتها كرجل لا عيب فيه؟
كان يبدو له بالتحديد أن تعبه الكبير ( لم يكن هياجه أقل اعتبارا، كانت فانتا ستقول مستهزئة، كان من طبعه أن يدعي أنه منته عندما كانت الهوجة الصماء الدائمة التي يفرضها على أقربائه تنهك هؤلاء قبل أي أحد، أليس صحيحا، رودي؟) ناتج عن كونه يبذل قصارى جهده ليرشد طنبورهم المسكين في الاتجاه الصحيح وكذلك حمولتهم من الأحلام المضنية، الأحلام المهينة.
هل تلقى يوما جزاء على رغبته في أن يتصرف على أفضل حال؟
لا، ولا حتى تلقى تهنئة أو تشريفا أو اعترافا.
تبرئة لفانتا التي يبدو أنها كانت دائما تنسب إليه بصمت الإخفاقات والحظ العاثر، يعترف أنه كان يسرع في استباق كل حكم بهذا الشكل عن طريق الإحساس المبهم بكونه محاسب كل مصيبة تسقط على رؤوسهم.
أما بالنسبة لضربات الحظ النادرة، فكان قد تعود على استقبالها بارتياب، وكان وجهه الحذر يظهر بجلاء أنه غير مسؤول عن دخول السعادة إلى منزلهم حتى أن لا أحد تخطر بباله فكرة تقديم الشكر له.
لم يكن رودي جاهلا بهذا الشيء.
كان يحس بريبة مقززة ترتسم على سحنته في اللحظة التي يقترح فيها على فانتا، مثلا، أو على جبريل، الذهاب إلى المطعم أو القيام بنزهة في نادي كانوي، ويرى بالمقابل قلقا واضطرابا (لدى الطفل الذي يحول نظرته باحثا عن نظرة أمه، لكونه غير قادر على فهم نوايا والده) يكتسح وجهي زوجته وابنه الجميلين المتشابهين، ولم يكن يستطيع حينئذ أن يمنع نفسه من أن يؤاخذهما ثم يصبح حانقا ويطلق: ألستما مسرورين أبدا؟ بينما يأخذ وجها الكائنين الوحيدين اللذين يحبهما في هذا العالم في الانغلاق حينئذ، ويخلوان من أي تعبير عدا لامبالاة تجاهه وتجاه كل ما يمكن أن يقترحه من أجل إدخال السرور عليهما، ويقصيان من حياتهما ومن تفكيرهما ومن أحاسيسهما بصمت هذا الرجل المتذمر دائما، والذي لا يمكن توقع ما سيفعل، والذي يفرض عليهما حظ تعس تحمله بالقرب منهما مثل حطام حلم مضن، حلم مهين. كل ما كان سيحدث لي حدث.
أوقف سيارته بغتة على جانب الطريق التي تؤدي به كل صباح مباشرة عند ماني، بعد أن يكون قد مر على المدارة التي ينتصب في وسطها، الآن، تمثال من الحجارة البيضاء لرجل عار، ظهره منحن ورأسه منخفض وذراعاه ممدودتان نحو الأمام كما لو كانتا تنتظران بهلع واستسلام انبجاس الماء المبرمج لرشه في بداية الصيف.
كان رودي قد تتبع كل خطوة من خطوات إنجاز النافورة، كل صباح، عندما كان يدور ببطء حول المدارة في سيارته النيفادا العتيقة قبل أن يعرج نحو منشآت ماني، ثم تحول فضوله الشارد إلى اضطراب، ثم إلى انزعاج عندما ظن أنه لاحظ تشابها طفيفا بين وجه التمثال ووجهه (نفس الجبهة الكبيرة المربعة والمسطحة، نفس الأنف المستقيم القصير، نفس الفك النافر، نفس الفم العريض، نفس الذقن البارز الذي يميز الرجال المتعجرفين الذين يعرفون بالضبط إلى أين تقودهم خطواتهم الواثقة، أليس هذا هو ما يضحك أكثر مما يحزن عندما يكون المرء مكتفيا بالذهاب للكد لدى ماني، أليس كذلك، رودي دسكاس؟) ثم تزايد كدره عندما رأى الجهاز التناسلي الذي نحته الفنان، الذي كان يحمل اسم راء. غوكلان ويقطن في الجوار، بين فخذي بطله، دافعا رودي إلى الإحساس بكونه موضوع سخرية فظة بسبب التناقض المثير للشفقة بين الهيئة الضعيفة والعزلاء وكيس الخصيتين الضخم.
أصبح الآن يتفادى أن يلقي نظرته المعتادة على التمثال عندما يدور حول المدارة في سيارته النيفادا المتلفة.
لكن ردة فعل سيئة القصد كانت توجه أحيانا نظرته نحو الوجه المعدني الذي كان وجهه، الشكل العريض والواضح ذي المظهر الرجولي المائل بخوف، ثم نحو الخصيتين الغير متناسبتين، وانتهى به الأمر إلى أن يحس بالحقد وشيئا ما بالبغض تجاه غوكلان الذي نجح ـ كان رودي قد قرأ ذلك في الجريدة المحلية ـ في أن يبيع عمله للمدينة بمائة ألف يورو.
هذا الخبر جعله يغوص في ضيق شديد.
كان الأمرـ أخذ يقول في نفسه ـ كما لو أن غوكلان استغل نومه أو براءته ليجعله يظهر في صورة خلاعية جعلت غوكلان أكثر غنى ودسكاس أكثر فقرا وإثارة للضحك ـ كما لو أن غوكلان لم يخرجه من حلم مضن سوى ليدخله في حلم مذل.
مائة ألف يورو، لا أصدق ذلك، قال لفانتا مستهزئا لكي يخفي كآبته. لا، حقا، لا أصدق ذلك.
أية أهمية، أجابت فانتا، ماذا يكلفك، أنت، أن ينجح الآخرون، بنفس الطريقة المزعجة التي أصبحت عادة عندها وهي ألا تنظر إلى أية حالة إلا من وجهة نظر مترفعة وحليمة ومتجردة، تاركة رودي لأفكاره الخسيسة والحسودة لأنها لم تعد ترغب في مشاركته لا في هاته الأشياء ولا في غيرها. لكنها لن تستطيع أن تمنعه من أن يتذكر، وأن يذكرها بنبرة متوسلة، بتلك السنوات غير البعيدة عندما كانت إحدى أكثر متعهما تكمن في أن يجلسا جنبا إلى جنب على السرير، في عتمة غرفتهما، مثل رفيقين يدخنان نفس السيجارة، ويحللان بدون تسامح تصرفات وطباع أصدقائهما وجيرانهما، وينهلان من صرامتهما المشتركة الممزوجة بسوء نية واعية بمفعول المزاح الذي لم يكونا ليستطيعا أو يجرآ على الإقدام عليه مع آخرين، المزاح الذي كان شيئا خاصا بهذا الثنائي الذي يكونانه بالإضافة إلى كونهما زوجا وزوجة.
كان يريد أن يرغمها على أن تتذكر، هي التي تتظاهر بتصديق أنها لم تستمتع أبدا معه ـ لكنها لم تكن، لا، لم تكن أفضل فكرة تخطر له، بنبرته المتوسلة رغما عنه، أن يصل به الأمر إلى أن يتسول كي تقبل أن تلاحظ أن ما كان لم يعد وأن الرفيق المحبوب الذي كان قد مات بلا شك إلى الأبد، تمّ بسبب خطئه هو.
______
*مجلة نزوى

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *