سيرة الذات في الرواية من التوثيق إلى المكاشفة


*زهور كرام

ارتبطت السيرة الذاتية في مجال التخييل السردي بشكلين من الحضور الرمزي. جاءت مرة على شكل توثيق مسار حياة، رغبة في الانتصار للفعل الإيجابي للذات، وهي تحقق مقاومة اجتماعية، كما نجد في سيرة طه حسين ‘الأيام’ (1929) والتي تحكي سيرة نجاح كفيف تخطى الصعاب الاجتماعية والجسدية ليصبح من أهم مفكري القرن العشرين. وحضرت الذات مرة أخرى سيرة جريئة تسرد عري الذات من النفاق الاجتماعي، وتحاكم المجتمع حين تفضحه، وهي تتقدم نحو القارئ عارية من كل التعاقدات الاجتماعية، كما نجد عند محمد شكري في خبزه الحافي (1982 الإصدار الأول بالعربية) التي أسقطت القناع عن الذات.

وإذا كانت الذات تحضر تخييلا في النموذجين من أجل الإعلاء من وضعية الذات سواء في بعدها الإيجابي في الواقع، ومحاولة تشخيص الإيجابي رمزيا، أو في بعدها المأساوي، فإن حضورا جديدا مختلفا بات يشخص حالة الذات في السرد الروائي في التجربة العربية.
تحضر الذات باعتبارها موضوعا للمكاشفة والسؤال، وليس باعتبارها موضوعا لتوثيق واقع أو حقيقة مفترضة. تجلى هذا الوضع في نصوص روائية عربية كثيرة، بدأ أصحابها يعلنون عن أسمائهم داخل النص، بعدما كان الروائي يجتهد ليخفي أثاره في القصة من خلال سعيه لإبعاد كل ما هو واقعي عن الرواية، وذلك من أجل الإيهام بواقعية ما يحكى. وحتى لا يحدث أي نوع من اللبس بينه وبين إحدى شخصياته في النص، غالبا ما كان يؤطر الرواية بمقطع يحذر فيه من السقوط في اللبس من خلال الجملة المشهورة التي تعودنا قراءتها عند عتبة مجموعة من الروايات مثل ‘إذا حدث ووجدت بعض الشخصيات تشبهك أو تشبه شخصيات واقعية، فإن ذلك من وحي الصدفة’. هو تصور بدأ في التلاشي حين بدأ بعض الروائيين يخترقون التخييل، ويسردون ذواتهم المادية الواقعية، ويجعلونها عنصرا بنائيا في النص بدون تحذير، وبعيدا عن وضعية الذات في السيرة الذاتية المتعارف عليها في النماذج النصية والنظرية السردية. يتعلق الأمر بالنصوص التي تحضر فيها الذات خارج عنصر المطابقة المفهوم الجوهري الذي يحدد مبدأ السيرة الذاتية في نظرية فليب لوجون بين الشخصية والمؤلف والسارد، إنما الأمر يتحدد في إدخال الذات في التخييل ليس من أجل توثيق حالتها التاريخية، أو كتابة حياتها الاجتماعية والتربوية وحتى السياسية، أو حكي جرح الذات وألمها، وإنما من أجل مساءلتها ونقدها وتأمل مسار تاريخها وتاريخ أفكارها. ولهذا، فهي غير معنية بمبدأ المطابقة الذي يهم السيرة الذاتية، لأن مفهوم المطابقة يجتهد لخلق نوع من التطابق شبه التام بين حياة الذات خارج التخييل وحياتها داخل اللغة الإبداعية. بدأت هذه التجربة مع بعض الروائيين على شكل إدخال عناصر واقعية ملموسة تشير بشكل مباشر وواضح إلى الشرط التاريخي والاجتماعي للكاتب، وبسرعة يستطيع القارئ أن يقيم نوعا من العلاقة بين الذات المتخيلة والذات الواقعية كما نجد في نصوص الكاتب المغربي ‘محمد برادة’ خاصة روايته ‘امرأة النسيان’ (2001)، والتي تعتمد مؤشرات واقعية ذات علاقة بالكاتب محمد برادة، من خلال نقد المؤسسة الحزبية التي ينتمي إليها، وكذا السلوكات السياسية، في محاولة منه لإعادة تدبير موقع الذات في هذا الشرط الحزبي/السياسي المغربي خاصة مع تجربة زمن التناوب، والمستجدات التي واكبت مسألة تصريف الشأن السياسي المغربي من قبل المعارضة. غير أننا في نص آخر نجد الكاتب يعلن عن اسمه وذاته، دون الاكتفاء بالمؤشرات المادية، بل يجعل اسمه ساردا لبعض فصول النص، مثلما حدث مع تجربة الروائي ‘عبد القادر الشاوي’ في نصه ‘من قال أنا’ (2006)، والذي يعد عبارة عن محكي لا يتجاوز يوم في المستشفى، إذ يحكي ‘الشاوي’ تجربته الحقيقية مع المرض، ودخوله المصحة لإجراء عملية جراحية دقيقة لاستئصال الورم السرطاني. تدور الحكاية في المصحة بين غرفة الشاوي الذي ينتظر ساعة إجراء العملية، وممر الزوار وقاعة الاستقبال. وتشكل لحظة ما قبل إجراء العملية محطة التأمل في مسار الحياة والكتابة والرواية والسياسة والحب والصداقة والمرض وصولا إلى الإحساس بتجربة الموت. لم يهتم الشاوي في هذا النص بسرد تفصيلات حياته، ولم ينشغل بتوثيق مسار طفولته وشبابه، وفترة النضال ثم الاعتقال، فتجربة الصحافة والكتابة والسياسة والحب، كما لم يشتغل تخييليا بحكي أوجاع الذات ومحاسبة النظام السياسي، أو المجتمع والقوانين، إنما تم سرد ذاته باعتبارها موضوعا للمساءلة والمحاكمة. ولهذا، يعرض مجموعة من المواقف والقرارات التي اتخذها في حياته، وبسببها وجهت إليه انتقادات وتهم، يعرضها ويعطي تبريرات، ويتأملها من خلال أراء الآخرين، من بينها تهمة خيانة دم الشهيد الفلسطيني، وذلك عندما لب دعوة زيارة الأراضي المحتلة، يقول: ‘تلقيت الدعوة من الفلسطينيين، وأنا في حل من جميع الدعوات القومية النادبة التي قامت في وجه الذين تعاونوا رأسا مع السفارة الإسرائيلية’(ص63)
لا يسرد الشاوي جزئيات حياته، وتفصيلات يومه، كما نجد في السيرة الذاتية، إنما الذي يحدث في مثل هذه التجربة السردية أن الذات تأتي وهي منشغلة بإعادة تأمل واقعها، بعيدا عن الرغبة في التوثيق للحياة بكل مظاهرها، وسرد الألم أو الجرح، ومحاكمة المجتمع والآخر، من أجل تحويل الذات إلى نموذج يحتذى به.
يحول الكاتب ذاته الواقعية إلى مادة متخيلة، ويقيم معها مسافة عبر وسائط السرد، فتصبح ذاته الذات الأخرى التي يسعى لمعرفة حقيقتها، وطبيعة وعيها، كما يستثمر ملفوظات الآخرين من أصدقاء وكتاب وقراء ويحولها إلى واجهات سردية تتجلى فيها ذاته المرغوب في اكتشافها، وعبرها ينتقد قضايا النضال والسياسة خاصة مرحلة ما بعد الاعتقال، وكذا التراجع عن الرهانات.
تتميز هذه الكتابة التي تحضر فيها ذات المؤلف بشكل صريح، وبدون رغبة في الاختفاء بحالة سردية جديدة تعيش فيها الذات بين البينين، أو كما سماها الناقد المغربي ‘رشيد بنحدو’ ‘هذا أنا هذا غير أنا’ في محاولة منه لتحديد موضع ذات المؤلف داخل التخييل الروائي، كما ينعكس هذا الوضع على اللغة التي تعرف حالة الحضور والإضمار، وهي بذلك تمنح للنص قوته التخييلية،لأن ذات المؤلف لم تسقطها في لعبة المطابقة. 
ولأن مجال الكتابة الروائية في هذا النموذج يضع العلاقة بين الواقعي والتخييلي في إطار من الشراكة السردية من أجل إتاحة الفرصة أمام الكاتب ليعيد تأمل ذاته، نقدا ومحاكمة وتفكيكا من أجل إنتاج وعي مغاير بذاته، وعي يسقط الأوهام كما هي مبرمجة في الواقع، فقد فرضت هذه الكتابة تجنيسا آخر سماه الشاوي ‘تخييل ذاتي’ وعنونه ‘برادة ب’محكيات’ في نصه ‘مثل صيف لن يتكرر’ (2003 )، وعبر عنه آخرون ب’ سيرة ذاتية روائية كما نجد مع الروائي التونسي محمد الباردي في نصه ‘حنة’ (2010)، وتعتبره بعض الدراسات الفرنسية عبارة عن ‘روايات ذاتية’.
تطرح هذه الروايات نقاشات الحدود الممكنة بين الروائي والواقعي فيما يخص إنتاج النص الأدبي.
هل يمكن الحديث عن تحول في كتابة الرواية في وعي الروائي، وانتقالها من زمن الإيهام بواقعية ما يحكى، إلى زمن الاعتقاد بإمكانية الجمع بين الواقع والتخييل دون التفريط في إحداهما.
*كاتبة مغربية/ القدس العربي

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *