عسلها السائل على منتصف حنيني


*بسام الطعان

( ثقافات )

سنوات وأنا أحلم بغزالة تركض معي في حقول الحنطة , وتعيد الشباب إلى الجسد الذي شاخ قبل أوانه.. سنوات وأنا أسافر إلى برار ووديان وقرى كثيرة, أبحث عن غزالة أتعبني حبها, غزالة لا أعرفها ولم أرها من قبل.
يا له من ظلم لا يفارقني, ويا لها من خيبات لا تصـادق غيري من البشر, ويا له من حلم لا ينكسر, فأنا دائما أراها وخاصة في الليالي, مثل قمر مشع في ليلة صيفية , وفي كل مرة , أجعلها سـمفونية وأعزفها في وحدتي , ثم أضمها إلى صدري, وأحملها على أنامل القلب.
تعبت من السـفر فعدت إلى قريتي , أواه.. من هذه القرية التي لا تمنحني إلا التعب والآلام المستبدة , ولأن العـمل دواء لانبلاج الحزن , مارست أعمالي المعتادة لعلني أنسى الغزالة , لكنها لم تخرج من ذاكرتي أبدا.
ربًّ صدفة… يا لها من صدفة لذيذة, البارحة, أقصد أول البارحة بالتحديد, كنت أشـتغل في الحقل, وكانت الأحلام والخيالات تأخذني إلى عوالم غامضة, وفجأة باغتتني غزالة لا تشبه الغزلان وتسمرت أمامي, نظرت إليها بدهشــة لا توصف, فرأيت فيها تغاريد البلابل, وألحان الناي , وأهازيج عصافير الدوري , والياسمين , وعناقيد العنب, وابتسامة”الجوكندا” وقصائد “محمود درويش”.
غمرتني بنظراتها وعطرها وابتساماتها الملغزة, فلم أعد أعرف ماذا أفعل وكيف أتصرف. من أي عالم جاءت ؟ ومن أين انبثقت؟ هل جاءت من عالم الجن الذي قرأت عنه في الكتب؟ كل ما أعرفه أنني تبعثرت من شدة فرحي في المدارات , وصار الحقل أكثر اخضراراً.
صامتا ومندهشا بقيت وأنا أزرع نظراتي في حلاوة روحها, ورقة جسدها, وطيبة نفسها, بغتة مددت لها يداً ملوثة بجمر الهذيان, آآآآآخ.. ما هذا ؟ انغرزت شوكة حادة في إبهامي, وبعد كثير من الأنين , سحبتها كما المسامير من خشبة , ورميتها للوحل وللوجع وللدنيا التي لا هم لها إلا أن تتعبني وتحرمني من ملذاتها.
لم تنتبه الغزالة لأنيني, ربما لم تسمعني , وإنما حدقت في عينيَّ وقالت بشفتين لذيذتين:
ـ ما رأيك بقليل من العسل الذي لا يشبه العسل؟
غزالة كلها غرابة , شكلها غريب , وجمالـها غريب , وكلامـها غريب, لم تطعمني العسل , ولم تنتظر جوابي , استدارت وابتعدت بخفة ورشاقة ولم تلتفت إليًّ, فتابعت خطواتها الناعمة في صـمت وذهول حتى اختفت في الوادي.
“ماذا تنتظر أيها الأبله؟! هيا اتبعها وانهل من العسل”. قال قلبي الذي خفق بإيقاع حنين لا حجم له, لكنني لم أستمع إليه ولم أتحرك وبقيت جامدا كالتمثال.
لأكثر من نصف سـاعة وأنا محاصر بين حقول الهذيان ودوائر الدهشة , وأوزع في الحقل شــتلات الكلام , وبعد حين غبت في تداعيات لذيذة , وأسميتها فرحي وحياتي ولذة لذاتي , ورسمت بشفتيها أمنية ولا أحلى وقلت:” تعالي واحضنيني يا صاحبة العسل والجمال العجائبي”. وبعد لحظة واحدة, رأيتها تقف فوق حجر كبير وتناديني باسم جميل , وحين لم أتحرك , دفعني القلب دفعة قوية, فركضت باتجاهها بحب وشـوق , لكنني اصطدمت بحجر صغير وسقطت في الوحل , أما هي فراحت تخرج لسانها وتهز رأسها وتضحك بعذوبة, وما أن نهضت وخطـوت الخطوة الأولى , حتى اختفت في أقل من لحظة, وتركت جداول الحسرة تسير في كياني.
تركتني وحيدا في براري الصمت والألم , فجلست تحت الشجرة أدخن لفافتي, أهبط إلى أسفل الضجر, انظر إلى العشب الذي لا يمل من إرسال أشواقه للغيوم, وفجأة صحت: يا الهي ما هذا؟
رأيت مرآة كبيرة جدا تنبثق أمامي ويسير فيها رجال وشباب إلى جهات محددة, وكل من يراني يلتفت إليًّ ويبتسم ويقول:
ـ هل أكلت العسل؟
حاولت أن أركض وأعود إلى البيت, لكن أقدامي كانت قد تحولت إلى عشب يابس, ظل الكل يســـأل إن كنت قد أكلت العسل, لكنني لم أرد على أحد , لأنني كنت مشغولا بإرسال ورود العشق إلى التي أضاءت أمامي كل المرايا وأنارت الجــهات في أعماقي, وانتظرتها أن تأتي لتمنحني هديل جسـدها وتسقيني العسل , ويا للدهشة والغرابة, رأيتها واقفة أمامي , وبإشـارة من إصبعها انبثق أمامها شاب ملامحه جميلة , ودون أن تدعوه راح ينهل من عسلها, وكانت هي تتأوه وتطلق الضحكات الرنانة وتنظر إليًّ وكأنها تسخر مني , رجّـني غضب مرعب , نهضت دفعة واحدة , ودون مقدمات أو خوف, أرسلت إلى خد الشاب صفعة قوية , آه.. أطلقت صـرخة مدوية وأحســست بألم فظيع حين ارتطمت كفي بجذع الشجرة , ولكن لا أدري كيف اختفى الشاب وأخفى معه غزالتي المدللة.
بدا لي الحقل بارداً وموحشاً, ورأيت كل عصافير الدوري تتقافز على الشجرة وتزقزق وكأنها تسخر مني بزقزقاتها, وحين توزعت حسراتي في المدى, عدت إلى القرية منهزماً, منكسراً, ومراقبا لموت أحلامي وأشيائي في صـمت, وما أن وصلت إلى القرية حتى رأيتها تخرج من أحد البيوت وتسـير في زقاق ضيق , فلم أتمالك نفسي, اقتربت منها, طوقتها, ولم ادع لها مجالا للهرب أو الكلام:
ـ لا بد أن آكل العسل هذه المرة.
قلت ثم هجمت عليها, طوقتها بذراعيّ وصدري وزرعت القبلات الحارة على خديها وشفتيها ورقبتها, أما هي فراحت تصرخ وتحتج وتشـتم وتحاول الإفلات مني , لا أعرف كم من القبلات زرعتها, ربما عشرات وربما مئات, ولم اشعر بنفسي إلا بعد أن انتشرت أياد كثيرة من حولي , وبعد أن سـحبتي الأيدي بعنف , انهالت عليّ الصفعات والركلات والشـتائم البذيئة , وكانت الغزالة تقف خلف نافذة بيتها وتشتمني بثيابها الممزقة, وبجسدها الذي لم يعطني قطرة واحدة من العسل , وصارت حكايتي حكاية , وصـار اسمي أبو العسل.
_________
*قاص من سوريا

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *