“بابنوس” لسميحة خريس.. لعبة التقابلات الثنائية


د.رزان إبراهيم*



«كأنها أدركت لوهلة.. صوت جدتها رحمة المخطوفة التي لم تعرفها بتاتاً، قادماً من البحر عابراً الزمن ليواسيها» 
(بابنوس) 

«الخربقة» مسرح رئيس لما يجري من أحداث رواية تتحرك شخوصها في مكان مهمش فقير بعد طردهم من جبل مرة الرافل بالخير في الفاشر، والفقير -كما تحكي الرواية- لا يُطرد جهراً وإنما بتضييق الخناق حوله. ومن هنا تتخذ مجموعةٌ؛ يُذكر أنها من نسل قبيلة إفريقية عربية من المساليت لا لون صريح يساعدهم على الانتساب ولا أرض ولا أنعام.. تتخذ قراراها بالهجرة بحثاً عن موقع في البوادي الواسعة، لتستقر بعدها في بقعة صارت لهم وطناً وهم صاروا لها أسياداً. 
ميزة هذا المكان أن أصحابه لم يكن لديهم ما يغري الآخرين فيه، لذلك كان محمياً من الأطماع، وكان أبناؤه معزولين عن حياة صنَعها البشر على شاكلتهم خارج الخرنقة، لذلك عاشوا بوفاق ومحبة معتكفين كما الحمائم في أوكارها بعيداً عن الصقور الكاسرة. وليكون الواحد منهم روحاً حرة بعيداً عن تنظيمات تصادر هذه الروح وتقتلها، وليعيشوا دنياهم على هواهم رغم فقرٍ وجوع يحمل الموت. ولا غرابة إذ يختارون «الخربقة» اسماً يطلقونه على أرضهم، وهي اللعبة التي تعلموها من تجار مروا بهم لتكون أول نشاطهم على أرض الوطن الجديد. 
أصبحت الحَكّامة على هذه البقعة اسماً رائجاً يستجاب إليه بوصفها الحكّامة وليست الحاكمة، ذلك أنها ساست المكان بحكمة بالغة. اجترأت فيها من السبل ما يثبت صموداً في وجه حياة معقّدة لمجتمع يصنع أساطيره ومعتقداته: (معجزة طيران نعش أبي الحكّامة، وشجرة الموتى)، ويمارس من المبادئ ما يراه في الصالح العام. لذلك مورس مبدأ الجودية، حيث يتجمع أجاويد الناس وكبارهم لحل مشاكل وطن صنعوه بأيديهم؛ في إطار قوانين رحيمة تعترف بتفاوت الناس كما كأس شراب «الحلو مر»، بما يقتضي رحمة وفهماً وقدرة على التغاضي عن هفوات بشرٍ بعصفهم وضوئهم وضوضائهم. 
تُظهر لنا الحكامة صوفية في بقعة مضيئة داخلها، تؤوّل ما تفهمه من الكتاب بطريقة مختلفة، لتكون أمها الحكمة وأبوها القدر وهي أم الجميع. وليكون كل وجع تعيشه شبيهاً بحالة امرأة في مخاض وراءه طفل جديد. وهي من قضى عمراً في محاولة إخراج المتوجعين من أحزانهم، بما في ذلك أكثر من ربيبة رعتها وجعلتها عجوزاً مثقلة بالثمر تضيف إلى لحائها كل يوم لحاء جديداً بحكمة ثخينة وظل وارف. لتكون أماً بلا رحم يلد، حمّلتها الأمومة همَّ وعبءَ التفكير بمكانهم تحت الشمس. 
تبرز في الرواية ومنذ لحظاتها الأولى ثنائية الأسود والأبيض أو العاج والأبنوس، بل ونجدها قد حضرت لازمة في أكثر محطاتها. جاءت أولاها مع لحظات مقاربة تربط «بابنوس» -إحدى الشخصيات المهمة في الرواية- بشجرة تحمل اسمها. في ساق هذه الشجرة الكبيرة يكمن سرها، خليط بين لحاء رمادي مع مشحة بنية، كما هي حال بابنوس التي وُلدت لأم سمراء، ومثل الشجرة أيضاً حمل داخلها اللون الأسود كما هو لون أبيها الأزرق الإفريقي. وهي من جرت في عروقها شمس إفريقيا الحارة، لو انسلخت عنها تموت وتباع منحوتة عبقرية للخواجات أو للتجار القادمين من أم درمان بأسعار باهظة، لتصبح أغلى من تحف العاج الوهمية المصنوعة من عظام الحيوانات المحفوفة حين يعاد تشكيلها من جديد على يد نحات وإزميل. 
وفي محطة أخرى نرى هذه الثنائية حاضرة في تحفة أحضرها أحدهم هدية لزوجته، على شكل تمثال بقاعدة خشبية منحوتة لامرأتين تسندان ظهريهما متلاصقتين، وقد برع الفنان في نحتهما، واحدة من الأبنوس الأسود اللامع، والثانية من العاج الأبيض المشوب بضباب ترابي خفيف. ليكون هذا الامتزاج بين أبيض وأسود حاضراً في أكثر من شخصية من شخوص الرواية. نجده أولاً في ست النفر التي ولدتها تركية التي جلبها صائد النمور لتنجب بعد ذلك خلاسية مخلطة بين بياض أمها وزرقة أبيها. وهو ما نراه مع ولد حوّا الذي تمتزج فيه عيون الرجال البيض وسواد جلدة إفريقيا. ليحضر هذا منسجماً وبقعة من الأرض تمازج فيها سكانها عرباً وزنوجاً ومساكين وطامعين. 
في هذه الرواية تُطلعنا سميحة خريس على شخوص متغايرة بحمولات نفسية متعددة، مستبقية صفحات الرواية الأخيرة لراوٍ حرّ أو سارد يحرك الحدث ويشرف عليه ويتنقل حيث يشاء، في وقت بقيت فيه فضاءات السرد متسعة قادرة على استيعاب وجهات نظر مختلفة توحي بسعة أفق روائي يحتفي بتعددية تعكس احترام الإنسان في أن يختار ما يشاء، بما يتماشى ونبض الحياة القائم على تنوع لا يتعارض ورغبة في تحديد جملة من القيم الإيجابية والسلبية تُظهر شيئاً من تصورات الروائية حول عالم يهمها أن تمارس تأثيرها عليه. 
يبدو من اللافت هنا حضور لأكثر من شخصية في إطار ثنائي يبدو كل طرف منه نقيضاً لآخر يكمله دون أن يزيحه أو يحل مكانه. ذاك أمر يبرز على نحو واضح مع «بابنوس» و»آدم»؛ لتبدو هي صاحبة العقل المسكون بأكوان بعيدة خيالية، ويكون هو المكتفي بحدود الخربقة والغابة القريبة. كما يبرز بقوة عبر شخصيتي «ست النفر» وحوّا»؛ الأولى لتي يسكنها خوف هجوم عليها إذا ابتعدت عن الدار، لتؤثر صمتاً تغرق معه حكاياتها وحكايات أمها في حلل عصيدة تذيبها في مشروب «الحلو مر» الذي صنعته. في وقت تظهر فيه الثانية بائعة نشطة جريئة بارعة في شطب من تريد من حياتها، بما في ذلك مأساة أسرتها التي فقدتها بسبب الجوع، أو حتى قصتها مع الراهب الذي أتاح لها عيشاً مثلما سيدات البيوت الفارهة لتعده زوجها في ضميرها، لتعود بعدها وتلعنه حين تخلى عنها بعد حملها. 
يحضر هذا في إطار من وعيٍ يقدّر فروقاً بين البشر تعيه الحكّامة على أكثر من صعيد (ذكي وغبي، وكبير وصغير، وأنثى وذكر) دون أن تلغي أن لكلٍّ قدره وحقه. وكما هي الفروقات في القدرات تحضر فروقات على المستوى البيولوجي التي لا تُحِلّ لأيٍّ كان أن يبيع أو يشتري بالآخر. لذلك لم تصدّق «بابنوس» أن جدة لها حُبست في الزريبة مثل عنزة لشهرٍ قبل أن تباع لأصحاب العيون الزرق، وكانت تعتقد أن لا وجود لزرائب تبيع الناس إلا في مخيلة أمها. وهو أمر يأتي منسجماً وروحٍ لحكّامة غير آبهة بتصنيف الألوان، بل وتضع أياً من هذه التصنيفات في خانة الجهل وقلة الإيمان واحتقار خلق الله الذي لا يليق بالإنسان الذي يستخدم عقله وقلبه ميزاناً عادلاً في الحياة، وعليه لم ترفض الحكّامة تزويج «ست النفر» من والد «بابنوس» لشدة زرقته، وإنما لأسباب أخرى بعيدة عن هذا التصنيف. ومن هنا كانت الأرض كما الناس كما السماء لا شيء ثابت أو متجانس. 
للمكان خصوصيته بروائح زكية من مثل روائح المطر الذي يهطل محرّضاً التراب على نفث أريجه، ليتناوب الإنسان والطبيعة على تفجير الرائحة في الخربقة كما تتناوب العتمة والضوء. وهي الخصوصية التي تعمّقها أكثر من حكاية شعبية بما في ذلك حكاية شجرة الموتى بما يُتناقل عنها بأنها قناة أو مسرب تمر منها روح الميت إلى برزخها لتكون شبيهاً بسكة الموتى. وما يبدو قبيحاً ومنفراً لشخص ما، قد لا يبدو كذلك لآخر، فهناك خيط شعوري حكم علاقة البشر بما أو بمن يلتقون. لذلك، وفي تلافيف غمام الرائحة العفنة لجلد الحمارة «ترترة» التخين، كان بإمكان «آدمو» التعرف على شذى ناعم خفي أليف مع حنين يتذكره كأول رائحة أشبعت جوعه، قبالة أم طال نفورها منه ولم تصْحَ إلا بعد إدراكها أن ابنها صار ربيباً للحكّامة وابناً للأتان. 
ومن هنا تأتي حتمية النسبية في مقاربة الأشياء أو الابتعاد عنها. وفي هذا السياق تكون للمكان خصوصيته العميقة من حيث التوافق بين الشخوص واللغة التي ينطقون بها، فها هو «السر»، الشاعر الحكّاي بالعامية، يحدثنا حديثَ القلب واللسان حين وقع في حب «تاجوج» بوحيٍ من حكاية «تاجوج» والمحلِّق، وهو الشاعر الذي يحكي الشعر صباح مساء، وقد كان الشيوعيَّ المسلم المحتال البرغماتي الذي يفسر على كيفه ويختار كيف يفكر ويكون. 
واحدة من أبرز النقاط التي تعرض لها الرواية تتعلق بسؤال ارتفاع وتيرة التوتر العرقي أو التصنيفات المتعلقة باللون أو التمايزات السلالية، لتثبت لنا الخربقة أن انصهاراً واندماجاً في بقعةٍ ما يصبحان عرضة للخطر والتفكك في اللحظة التي يحضر فيها الجوع أو تتقاطع المصالح، بما يقود إلى حمى جنونية تدفع كل جهة للحديث عن صفاء العرق والسلالة، لذلك لم يكن في الخربقة ما يشد انتباه المتصارعين. بل بدت مزيجاً يصعب فيه تحديد هوية العربي الأحمر أو الإفريقي الأزرق فحْمِيّ اللون، وكنا نجد الخلاسيين نسيجاً متداخلاً بنِسَب مختلفة من الاختلاط.
لكن هذه الحال لم تبقَ على ما هي عليه حين أصبحت الخربقة في إسار منطقة «دارفور» بما تحويه من سائل أسود موعود وغابات صمغ محيطة بها وبأسرار يورانيوم مخبأ في عمق الصخر تحت التراب، أو حتى وقوعها على خط إفريقي حيوي، لتصبح كنزاً يسيل له لعاب الغرب مدعياً في تداخلاته حساً إنسانياً عالياً، ولتنقسم المنطقة في نهاية الأمر بين «جنجويد» عرب متعالين يستصغرون المزارعين، ومزارعين تحولوا إلى جيش مسلح، لتكون قوات الدولة في منطقة ضبابية بينهما. هنا تتعرض الخربقة لنهاية مأساوية رغم خطة استسلام صامت مقهورة تضعها الحكّامة أمام خيار الحياة والموت، لتنغلق هذه البقعة على موت لئيم جافٍ عدواني قاسٍ يحصد أرواح موتى لا يمنحهم حتى فرصة عبور شجرة الموتى. 
لا تنتهي المأساة هنا، بل نجدها قد امتدت على نحو شمولي أوسع يلقي ضوءاً على صغار تم تجهيزهم وإبعادهم عن عائلاتهم عبر طائرة تستأجرها منظمة «قوس الحياة| التي تنقل البشر كما المعدات. نشاهد بعدها عائلات فرنسية سعيدة تحمل صور الأطفال القادمين إلى جانب لافتات كُتب عليها «أنقذوا أطفال دارفور، تبنّوا أطفال دارفور» ليكونوا كلهم أفارقة متشابهين كما تتشابه الأرانب. «كلهم سود يرتعشون ويبتسمون الابتسامة المذهولة الخائفة نفسها، ويحملون الأنف المفرطح نفسه، والعيون الواسعة المسكونة بالدهشة ورعب لا يفصح». ونصبح قبالة كاميرات تنقل فرحاً في لحظات شديدة الانفعال والإنسانية وتخفي في الوقت نفسه صفقة جماعية ثمنها خمسمائة ألف يورو. 
أما «بابنوس» و»آدم» اللذان يتم ترحيلهما على الطائرة نفسها، فيُتركان لمصير آخر يدرّ على من اقتادهما ربحاً معقولاً، ليكونا وهما في طريقهما إلى باريس، خروفين يساقان إلى ساحة الذبح. وليتملك «بابنوس» شعورٌ أثناء ارتفاع الطائرة بأنها تهبط إلى هوة سحيقة تقتلعها وتسبغ عليها شعوراً بالضياع. لتنتهي في آخر الرواية بضاعةً تباع لإحدى مالكات بيت الدعارة بستة آلاف يورو، بينما يباع «آدم» بأربعة آلاف يورو. ولتُعرض بعد ذلك مع «سابرينا» البوسنية البيضاء كتحفتين لا مثيل لهما، أو كتمثالين أسندتا ظهريهما متلاصقتين (امرأة الأبنوس وامرأة العاج). لنكون قبالة مقاربة فنية بين بياض بشرة الفتاة وتحفة العاج الثمينة، في مشهد تنمحي فيه كرامة بشر يباعون كما تباع البضاعة التجارية في دار أنيقة لا تشي بأيّ لمحة مبتذلة، كما لو كانت معرضاً للفنون لا داراً للدعارة. 
يعود نسق التعارضات الثنائية (أبيض/ أسود) الذي تخلل الرواية فارضاً حضوراً هو الأقوى في المسارات النهائية للرواية. أمرٌ يؤكد عليه حضور باذخ للوحتين ظهرت فيها «بابنوس» سوداء مغرية من خلفها ساتان حريري عاجي اللون تجلت ضوءاً أسود فجّ من البياض. بينما ظهرت رفيقتها الصبية البوسنية «سابرينا» وراء زجاج مدثر بمخمل أسود نوراً ينبعث في العتمة. وبين النافذتين أسفل أقدام الفتاتين ثُبتت لافتة خُطّت فوقها بخط الثلث العربي كلمتان باللون الذهبي: «عاج وأبنوس». تحضر هذه الثنائية ضمن صورة استعارية لا توحي بعلاقة تراتبية أو تفاضلية يحكمها اللون، فـ»سابرينا» البوسنية البيضاء انزرعت في الإطار نفسه الذي وُضعت فيه «بابنوس»، لنكون في مشهد مريع تُهان فيه إنسانية الإنسان بواقع حروب همها الأول مصالح مادية لا تفرق بين أبيض وأسود. 
يبدو «آدم» في هذه الرواية شبيهاً بـ»آدم» بطل رواية أمين معلوف «التائهون». فكلاهما طُرد من فردوس عاشا فيه، كما جرى مع آدم أبي البشرية. ولكن هنا يُطردان لا بسبب خطيئة، بل لأسباب أخرى. وكأن آدم كما يقول معلوف يحمل في اسمه بدءَ الخليقة، في وقت ينتمي فيه إلى بشريةٍ في دورها إلى الاندثار. ليكون أول السلالة وآخرها والمؤتمَن على أحزانها المتراكمة وخيباتها بل وعارها وخزيها.


* ناقدة وأكاديمية من الأردن
( الراي الثقافي )

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *