أليس مونرو .. وبراءة اكتشاف الذات والمكان



*محمد سمير عبدالسلام

تتميز كتابة (أليس مونرو) – الحاصلة على جائزة نوبل للآداب 2013 – بالبحث عن العوالم الثرية التي تجمع بين الفانتازيا، والعوالم الافتراضية الممكنة في لقائها بالواقع، وبنية المكان، وثقافته، وروحه الفريدة المختلفة، ومدى تفاعل تلك العوالم مع إنتاجية الوعي لدى شخصيات استثنائية تتسم بالعمق؛ مثل الأطفال، وكبار السن من النساء، وفي تفاصيل حياتها الخاصة أحيانا، وذلك وفق رؤية شاعرية أنثوية تلتقط العلامات الجزئية المميزة للهوية الفريدة للشخوص، والأماكن، والعلامات الكونية، وعلامات الحياة اليومية، وتفاصيل الذاكرة ضمن تيار من لحظات الحضور العديدة التي تتميز بالوهج الإبداعي، والبكارة، والتحول باتجاه العمق، والقيمة الإنسانية الروحية التي تحتفظ بالأثر الممتد للعلامة في الذات، وتشكيلها المستمر لأصالة الصوت الفردي.

وقد اخترت أن أترجم مجتزأ من كتابها (عزيزتي الحياة)، وأن أقدم رؤية – من خلاله – لكتابتها الفريدة التي تكشف عن التفاعل الإبداعي بين أصالة الذات، وخصوصيتها من جهة، وتيار الحياة بما يحويه من لحظات لا تتكرر، ولا تنفصل عن حضورها المجازي الآخر في الذاكرة، وفي تداعيات الكتابة التي تتصل – في شكولها الأدبية، والشخصية معا – بآثار الفن، والثقافة، والخبرات الروحية الممتدة، والمتحولة في الذات المبدعة من جهة أخرى.
وتسهب (أليس مونرو) في وصف تفاصيل المكان، بما تحمله من خصوصية جغرافية، وملامح كونية، وأخرى تعبيرية ممزوجة بالأثر الداخلي لتلك التفاصيل في الوعي المبدع، كما تشير إلى امتزاجه بأصوات البشر، وشكولهم المتنوعة في سياق إيقاع الحياة اليومية، ثم تكشف عن خبرات الطفولة، وعلاقتها بالمدرسة، وبصديقتها (ديان)، وتمتزج بهجة اكتشاف الجسد، والحياة الداخلية هنا بعاصفة الحرب، وإيقاع الموت، ورتابة المدرسة؛ ومن ثم ينتقل النص من إيماءات البهجة الممثلة في رقصة الأداء الفردي، وما تحمله من إيقاع تحرر ذاتي عميق يجمع بين المرئي، وتصاعد الروح في نطاق الوجود المجازي اللامرئي إلى إيماءة الموت الممثلة في قصة موت والدة (ديان)، والخلاف حول دفنها، وما يثيره من ألم، ومأساة، وغياب محتمل يهدد الوجود، ثم نعاين التحول باتجاه إدراك (الأنا الأعلى) وفق تعبير (فرويد)، وارتباطه بالخطيئة، والخلاص، ونبرات صوت الأم؛ ومن ثم فنحن أمام نص تتشكل فيه المعرفة بالذات، والعالم، ولا تنفصل فيه هذه المعرفة عن الخبرات الجمالية الحسية التي تجمع بين البساطة، والعمق، وقابلية إعادة الإنتاج، والتأويل بواسطة القارئ في الوقت نفسه.
ويمكننا تلمس أربع ثيمات فنية ظاهرة تلازم ذلك النص الأدبي السيري الذي اخترناه من كتابها (عزيزتي الحياة)، ونشر في مجلة (النيويوركر) الأدبية؛ وهي تشكل الذات، وتشكل المكان، وشاعرية الوعي الأنثوي، ومتواليات السرد بين التوثيق، والكشف عن الحياة الداخلية للشخصية.
أولا: تشكل الذات:
تستعير الكاتبة (مونرو) وعي الطفلة (مونرو)؛ كي تكشف عن بكارة إدراك نماذج الوجود، وقوانين العالم، وتحولاته داخل الذات، وخارجها؛ ومن ثم فالأماكن تتشكل في حضور آخر، وضخامة مجازية، وأصالة ترتبط بلحظات تشكل الصوت الفردي، وملامحه، ولحظات حضوره الاستثنائية داخل تفاصيل الفضاء الذي يبدو واسعا من الناحية الجغرافية، ونابضا بإيقاع الحياة في مستوياتها اليومية، وتحولاتها الاجتماعية، وأخيلتها في الوعي المبدع، وتشكيلها لملامح الهوية الأولى داخل الشخصية.
إن المياه المتموجة بالضوء، لتمتزج بالمياه الأخرى المغرقة؛ لتوحي بالتحول من السلام، وتناغم النفس إلى عاصفة الحرب في النص؛ وكأن التفاصيل لا تنفصل عن إيقاع الحياة الاجتماعية، ولا عن أخيلة الشخصية، ومزاجها، وهويتها.
و رغم بساطة الخبرات التي توثقها (مونرو) فإنها تشتبك مع تاريخ الأدب، وشخوصه، وقيمه الفاعلة، والمطورة للقراءات المختلفة للهوية، وزوايا إدراك العالم، وبنيته، وتحولاته؛ فالعاصفة السحرية، أو الحرب تجسد نغمة التناقض بين الاتساع الداخلي للذات في المكان، وقسوة الحدود الفيزيقية، والخبرات الآلية المقيدة للوجود الإنساني، وللصوت الفردي الذي يبحث عن التحقق، وتشكيل الكينونة؛ ومن ثم اختلط إيقاع الرقصة الفردية ذات العمق الداخلي المتناغم، بقصة موت والدة (ديان)، ورتابة حجرات الدراسة، ثم فكرة الخطيئة، والعقاب ذات الأثر العميق في إدراك الطفلة للوجود في العالم، والقيمة الإنسانية، والبحث عن خلاص، أو تحقق ذاتي من خلال ذلك الإدراك نفسه.
والموت وإيقاعه المجازي عند (مونرو) توقف مفاجئ، غريب، وممتد، ويختلط ببدايات الوعي بالذنب، ولكنه استثناء مختلف عن تيار الحياة، وإيقاعها المتناغم المهيمن على النص، وكذلك أصالة الإحساس بدائرية الوجود الداخلي للشخصية، بينما نراه يستنزف فكرة النهايات نفسها فيما يسبقها من وعي ممتد بالموت في (أرض الخراب) لـ(إليوت) مثلا؛ فأطياف الموت القديمة تتوهج في الشعور الطويل بالنهايات، وكأن رتابة الغياب، ومقدماته تؤجل آليته، وتثير سؤالا مفتوحا حوله في الأثر أو العلامة، ولكن (مونرو) تدركه في سياق لحظات الحياة المتنوعة، وتيارها الممتد.
يقول إليوت في حركة دفن الموتى:
“مدام سوزوستريس العرافة الشهيرة / ألمت بها نزلة برد شديدة، ومع هذا / فهي معروفة بحكمتها التي بزت بها كل نساء أوربا / برزمة خبيثة من ورق اللعب قالت: هنا ورقتك، ورقة البحار الفينيقي الغريق / (تلك اللآلئ كانت عينيه) ..”. (راجع / ت. س. إليوت / أرض الضياع / ترجمة: د. نبيل راغب / الهيئة العامة للكتاب / سنة 1987 / ص 53).
لقد برز طيف البحار الفينيقي ليجسد جمود الموت، ويستنزف اكتماله في الوقت نفسه؛ فهو يبرز في المشهد؛ مثل مرض العرافة؛ وكأنهما يوحيان بامتداد الموت، واستمراريته في الوعي، دون آلية الحدوث المفاجئ الغريب عن أصالة تيار الحياة عند (مونرو)؛ فالموت – عندها – توقف آلي في الزمن، ولكنه لا يمحو حركة التحقق الذاتي، وتناغم النفس المستمد من الأحاسيس البكر للطفولة في النص.
أما تشكل الجهاز النفسي – وخاصة العلاقة بين الأنا، والأنا الأعلى – فقد بدا من خلال الإعلاء من قيمة الإنسان، ورغبته في الخلاص، والخلود؛ وهي أحاسيس بدت قوية من منظور الطفلة (مونرو)؛ فغياب صديقتها (ديان)، وتداعيه مع نغمات الموت، والخطيئة، وإدانات الأم المتكررة، وتأكيدها لفكرة ارتباط الموت بالخطيئة عند القديس بولس في رسالة رومية في الإصحاح السادس: 23، تومئ باكتشاف الأنا الأعلى، وتصاعده في الخبرات الحسية، وازدواجه المستمر بمحاولات التحقق، وتجاوز الموت نفسه، ولكن من خلال القيمة الإنسانية المتعالية التي تتحد بإشارات الأنا الأعلى، ولا تخرج عنها تماما.
و القيمة عند (مونرو) تذكرنا – وخاصة عند الحديث عن قصة دفن والدة ديان – بموقف (أنتيجوني) الاخلاقي في مسرحية (أنتيجوني) لسوفوكليس؛ فأنتيجوني حاولت تجاوز القوة؛ وما تستدعيه من موت فيزيقي محتوم، باتجاه موت آخر يعلي من امتداد الكرامة الإنسانية الممثلة في دفن الأخ؛ أما (مونرو) فقد توافق دفن والدة (ديان) في موطنها مع أخلاق الأم، وكذلك الإعلاء من التناغم الذاتي الداخلي في وعي الطفلة، واتجاهها للتمرد، والخروج، ومعانقة الرقصة الفردية، دون الاصطدام بعاقبة الخطيئة التي حفرت بداخلها كمدلول للموت.
لقد أدركت (أنتيجوني) قيمة الحياة في قبول الموت، أو تحقيقها لقيمة كرامة دفن الأخ في الواقع، بينما تجلت فكرة دفن والدة (ديان) في موطنها كبديهية لها جذور في الصوت الإنساني، وقيمته العليا، وفي الانحياز الآلي لها في تيار الحياة المتناغم، ولكنها حملت أيضا تحققا آخر لرعب الخطيئة، وتكرار الموت، دون أن يطغى ذلك على بهجة الوجود الذاتي للبطلة / الشخصية.
تقول (أنتيجوني) في نص (سوفوكليس):
” … أما أنا فقد تخليت عن حياتي منذ وقت طويل؛ ابتغاء مساعدة الموتى.”. (راجع / سوفوكليس / أنتيجونا / تراجيديات سوفوكليس / الجزء الأول / ترجمة: د. عبد الرحمن بدوي / المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت / ص 179).
لقد استمدت (أنتيجوني) طاقة الوجود من قيمة الإنسان، ولو كان ميتا، بينما ارتبط الموت في وعي (مونرو) بطاقة الغياب بوصفها استثناء قويا، يحفز أيضا من استمرارية الحضور، والبحث عن تجدد الهوية، وتجاوز مركزية الغياب.
ثانيا: تشكل المكان:
يبدو المكان في وعي (مونرو) كأنه روح للمدينة، ولصوتها، وإيقاعها الجمعي الخاص الذي يتسم بالتنوع، والإطلالة الكونية، والاتساع المجازي؛ وللمكان حضور دائري في نفس الطفلة التي اتحدت بآثاره الكونية؛ وخاصة المياه، وأخيلتها، وإيماءاتها في النص؛ فالماء العذب يطل من ذاكرتها، ويشير إلى نموذج البهجة، والتناغم الكوني في الوعي، واللاوعي، بينما تشير مياه المدرسة، ومنزل جدة (ديان) إلى تحول سيء، يشبه عاصفة الحرب، وإيماءات الموت، والخطيئة في النص.
ويأتي الأب مثل صورة مجازية للغطاء، والحماية؛ إذ يقتني بيتا قديما صغيرا؛ وكأنه تجسد للمكان في شكله الجمالي الحميم، والمتناغم، والصغير، والذي يتجلى كنواة أصيلة للعالم الواسع للنفس التي تشبه روح المدينة.
و يشبه (غاستون باشلار) البيت بالرحم؛ إذ يتشبث بساكنه، ويكتسب شكلا من الفضيلة الإنسانية حين يواجه الأعاصير، وتبدو فيه بطولة ذات أبعاد كونية. (راجع / غاستون باشلار / جماليات المكان / ترجمة: غالب هلسا / المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر ببيروت / سنة 1984 – ط1 / ص 67).
هكذا تجلت أخيلة مياه الطفولة، والبيت الصغير، ورمزية الأب كقوى جمالية ترتبط بالمكان، وتناهض الموت، والحرب، فيما يشبه أخيلة الرحم، ونموذجها القديم في اللاوعي.
ثالثا: شاعرية الوعي الأنثوي:
يلتقط وعي الطفلة (مونرو) التفاصيل الصغيرة، ويعيد تكوينها جماليا في شاعرية أنثوية تكسب الأشياء الصغيرة حياة أدبية جديدة ضمن تشكل الذات، وتجدد الهوية؛ فتلك التفاصيل لها أثر روحي داخلي، تعيد الشخصية من خلاله تشكيل موقفها من العالم؛ فالشارع الغربي هو شارعها، ومشهد المياه الممزوجة بضوء الشمس يدل على أصالة المكان بداخلها، والأرصفة تقترن ببهجة الرقصة المتحررة للطفولة، والقناة عميقة، وتوحي بغياب الذات المحتمل، وصوت الأم المرتعش يضخم من مخاوف الخطيئة؛ ومن ثم الموت، وأضواء المدينة، ولافتاتها توحي بقوة تيار الحياة بداخلها، وفي الخارج أيضا.
هكذا تكتسب التفاصيل حضورا ذاتيا آخر، وقوة مجازية للبساطة التي يمكن أن يقرأ من خلالها الوجود بطرق عميقة.
رابعا: متواليات السرد بين التوثيق، والكشف عن الحياة الداخلية للشخصية:
المتواليات السردية في (عزيزتي الحياة)، لا توثق علاقة إنسانية، أو حدثا، أو تطورا لشخصية، أو لفكرة ما فقط، وإنما تشكل بحد ذاتها مجموعة من الإشارات الفلسفية إلى الحياة، والموت، وتحرر الذات، والخطيئة، والحرب، وصورة المدينة في الوعي، واللاوعي في الوقت نفسه؛ فالمتوالية الخاصة بظهور الصديقة (ديان) تشير داخليا إلى ازدواجية بهجة الحضور، بإمكانية الغياب، وتشير متوالية قصة موت والدة (ديان) إلى اكتشاف الموت، والأنا الأعلى، أما متوالية المدرسة السيئة فتشير إلى نغمات المكان الرتيبة التي تحدد نطاق الشخصية، وتكبح رقصتها الذاتية، وتحققها الذي يبدو في انحياز (مونرو) العام إلى التناغم، وتأكيد استمرارية تيار الحياة، وأثره الجمالي الممتد في النفس.
و أترك القارئ لمتابعة ذلك المقتطف الصغير من كتاب (مونرو) السيري / الأدبي المعنون ب (عزيزتي الحياة)، والذي يمثل – فيما أرى – علامة فارقة في الكتابة القائمة على عمق النظرة الجمالية، والفلسفية للوجود، وذلك من خلال بساطة منظور الطفولة، وأصالة الذات في لحظات تشكلها الأولى، والمستعادة في آن.
مجتزأ من كتاب (عزيزتي الحياة) لأليس مونرو
ترجمة: محمد سمير عبد السلام
عشت أثناء طفولتي في نهاية طريق طويل، أو هكذا بدا لي؛ إذ كنت أقطعه مشيا حين عودتي من المدرسة الابتدائية إلى المنزل، وقد حدث الأمر نفسه حين عودتي من المدرسة الثانوية.
كانت المدينة حقيقية، وأصيلة؛ بما تحويه من نشاط، وحركة، وأرصفة للمشاة، وأضواء تمتد طوال ساعات الليل.
وتميزت نهاية المدينة بوجود كوبريين، يقعان أعلى نهر (ميتلاند)؛ أحدهما كان حديديا ضيقا، وكانت السيارات تعاني أثناء عبوره؛ إذ كان الشخص يضطر للتوقف المفاجئ حتى يعبر آخر، أو يضطر أحيانا لعبور الممر الخشبي مشيا، وقد لا تجد الدعامة الخشبية، فيمكنك حينها النظر إلى الأسفل جيدا، فتشاهد المياه المتموجة بالضوء الساطع. وقد أحببت ذلك، ولكن البعض كان يأتي أخيرا لاحتلال الممر. ثم يقع تجويف بسيط، وبعض البيوت المتهالكة التي كانت الفيضانات تغمرها كل عام في فصل الربيع، ولكن هؤلاء البشر المختلفين كانوا يأتون إلى المكان، ثم يعيشون بأي طريقة ممكنة؛ أما الكوبري الآخر فيقع فوق القناة التي تميزت بالضيق، والعمق الذي يكفي لإمكانية الغرق فيها.
و ينقسم الطريق بعد ذلك قسمين؛ أحدهما يتجه جنوبا أعلى التل، وفوق النهر مرة أخرى؛ كي يصير – بحق – الطريق الرئيسي؛ أما الآخر فيركض حول أرض المعارض القديمة، ويتحول باتجاه الغرب، وكان الطريق الغربي هو طريقي.
ثمة طريق موجز آخر يتجه شمالا، به رصيف، ومنازل عديدة متقاربة مثلما هو الحال في المدينة، وقد بدت على أحدها نافذة زجاجية كتب عليها (سلاطة الشاي)، كدليل على الدكاكين التي خصصت للبيع هناك.
و نعاين – بعد ذلك – المدرسة التي مكثت فيها عامين من حياتي، ولا أود رؤيتها مرة أخرى؛ فبعد انقضاء العامين استطاعت أمي أن تقنع أبي بأن يشتري لنا منزلا صغيرا قديما في المدينة؛ ومن ثم سيكون مضطرا لأن يدفع لسيارات الأجرة؛ فكان من الممكن أن أذهب إلى مدرسة المدينة، وكما اتضح بعد ذلك أنه لم تكن هناك حاجة لذلك التخطيط؛ لأنه في العام نفسه، وفي الشهر عينه، أعلنت الحرب ضد ألمانيا، وعدت – فيما يشبه السحر – إلى المدرسة القديمة، وإلى الرفاق المشاكسين الذين يخطفون مني الغداء، ويتوعدونني بالضرب، ولم يكن يبدو أن ثمة أحد يستطيع أن يتعلم أي شيء وسط مناخ يتميز بالاضطراب، وعدم الاستقرار.
لم يكن بالمدرسة سوى حجرة واحدة، ومعلم واحد، وربما ترك الباب مفتوحا أثناء العطلة، أما الطلاب المشاكسون فكانوا يطلبون منى – بصورة وقحة، أو مهذبة – أن أعمل بائعة هوى؛ فأحصل على وظيفة؛ مثل إخوانهم الأكبر الذين عملوا في التجنيد.
لم أعلم بأنهم من قاموا بتجميل دورات المياه، ولكنهم كانوا أسوأ شيء في المكان. لم يكن الأمر يشبه تماما المراحيض المنزلية، ولكنها كانت نظيفة، ومغطاة بمشمع للأرضية.
ثمة أسباب تبرر تدني هذه المدرسة؛ فلم نكن ننزعج من الرسوب فيها، ولم تكن الأمور سهلة من زوايا عديدة بالنسبة لي في المدينة؛ فالآخرون يلازمونني منذ الصف الأول، كما فاتني الكثير الذي كان يمكن أن أتعلمه، ولكن ما كان يواسيني هو رؤية المقاعد النظيفة، وسماع الصوت الراقي لمراحيضها المتوردة.
قابلت – في مرحلة التعليم الابتدائي – صديقة واحدة؛ هي (ديان)، وقد وصلت إلى المدرسة في منتصف السنة الثانية، وكانت في مثل عمري تقريبا، وكانت تعيش في تلك البيوت المجاورة للرصيف، وسألتني – ذات يوم – إن كنت أستطيع القيام معها برقصة الأداء الفردي، وعندما رفضت، عرضت أن تعلمني إياها. ماتت أمها، وأتت لتعيش مع جدها، وجدتها، وأخبرتني أن الرقصة تحتاج حذاء خاصا؛ للنقر على الأرض، وأنها تملك واحدا، وأنا لا أملكه بالطبع، ولكن حجم قدمينا كان متساويا؛ ولهذا يمكننا أن نتداول حذاءها، وأن أرتديه بينما هي تعلمني الرقصة.
شعرنا بالظمأ أخيرا، وأعطتنا جدتها كوبا من الماء، ولكن مذاقه كان سيئا؛ فكان من بئر تشبه مثيلاتها في المدرسة، وقد صرحت بأنني كنت أتناول المياه الممتازة من بئر في منزلنا، فقالت الجدة – بدون أية إساءة – أنها تتمنى لو أنها تتناوله كذلك.
أتت والدتي – بعد ذلك – بعد أن ذهبت إلى المدرسة، واكتشفت أنني مع (ديان)، وأحدثت ضجة ببوق السيارة؛ لتناديني، ولم تستجب للتلويح الودي للجدة.
و لم تكن أمي تقود السيارة عادة، وقد تعاملت مع هذا الحادث بعصبية، وجدية. وأخبرتها – في الطريق إلى المنزل – أنني لن أدخل ذلك المنزل مرة أخرى، وقد أثبتت التجربة أن هذا الأمر لم يكن صعبا؛ لأن (ديان) توقفت عن الحضور للمدرسة، وانتقلت إلى مكان ما.
أخبرت والدتي بأن والدة (ديان) متوفاة، وكانت تعلم ذلك، وأخبرتها عن رقصة الأداء المنفرد؛ فقالت بأنني ربما أتعلمها، ولكن ليس في ذلك المنزل.
لم أكن أعلم أن والدة (ديان) قد توفيت بسبب مرض يصيب بائعات الهوى عادة، وأنها أرادت أن تدفن في الوطن، وأن رئيس الكنيسة قد قام بتلك الخدمة، وكان ثمة خلاف، وجدل حسبما قال؛ فقد اعتقد البعض أنه سيقصيها، ولكن أمي اعتقدت أنه سيفعل الشيء الصحيح.
“الموت عاقبة للخطيئة”.
أخبرتني أمي ذلك لاحقا، ولوقت طويل، أو بدا أنه طويل.
و كنت – وقتها – في مرحلة سئمت فيها من كثير مما كانت تقول، وخاصة حين تتحدث بصوت مرتعش، ومروع، ومملوء بنبرة الإدانة، أو الإقناع، وكانت تكرر ذلك بانتظام، سواء أكان بشكل متعمد، أم لا.
هامش:
أليس مونرو: (16 يوليو 1931 – …) أديبة كندية حاصلة على جائزة نوبل في الآداب سنة 2013، ومن أعمالها القصصية (رقصة الظلال السعيدة) سنة 1968، و(حيوات للنساء، والفتيات) سنة 1971، و(تقدم الحب) سنة 1986، و(أسرار مكشوفة) سنة 1994، و(السعادة الفائقة) سنة 2009، وكتاب السيرة (عزيزتي الحياة) سنة 2012.
_______
*مجلة الكلمة

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *