في تجربة القراءة


*هيلاري مانتيل/ ترجمة: مصطفى ناصر

إذا حاول المرء ان يسجل عناوين الكتب التي قرأها في حياته ، سرعان ما يكتشف ان القراءة يمكن ان تنطوي على معنى فضفاض. حينما تقلب صفحات كتاب غير قصصي مثلا بحثا عن معلومات تهمك ، فهل يعني ذلك انك قرأت الكتاب؟ هل سبق ان قرأت مجموعة قصص قصيرة فتجاوزت بعض القصص ولم تقرأها؟ اذا التقطت احدى الروايات المفضلة لديك فقرأت فيها على عجل حينا وبتمعن حينا آخر ، وقلبت صفحاتها وتركتها زمنا ربما يطول أو يقصر ثم عدت إليها لتكملها ، فهل تعتبر نفسك قرأت الرواية؟ وفقا لأي معيار أو معنى يقال عن المرء انه قرأ كتابا يكون قد نسي كل شيء عما يحتويه!

يأتي كتاب بيير بيارد (كيف تتحدث عن كتب لم تقرأها) برؤية واعية لهذا الموضوع بالذات، حيث ينطلق من هذه النقطة المثيرة للجدل والارتباك ويمضي لكي يتناول القارئ على انه كيان اجتماعي. إننا نفكر عادة في القراءة على أساس أنها عمل انفرادي ، لكن في واقع الأمر احيانا لا تكون للقراءة علاقة باختيار الفرد. قد يخبرنا شخص ما عن الكتب الجيدة التي يرى أنها جديرة بالقراءة وكذلك عن رأيه ببعض الكتب التي يعتبرها رديئة ، ويرشح لنا شخصا آخر الكتب التي ينبغي لكل مثقف ان يكون قرأها. أحيانا نسمع الكثير من الأقاويل أو نقرأ كتابات عن كتاب نعتقد باننا قرأناه من قبل ؛ هنا يستبدل الاتفاق في الآراء أي مجال لتبني رأي شخصي. ان انحيازنا لكتاب معين وتوقعاتنا بشأن كتاب آخر من شأنه ان يخلق حاجزا بيننا وبين الكتاب حتى قبل ان نبدأ بالقراءة خارج نطاق ذلك الحجاب من الكتب ربما نقوم بتشييد مكتبة داخل أذهاننا. ان تراكم مثل هذه الكتب في دواخلنا ــ التي لا تتشابه بالضرورة مع نصوصها الأصلية ــ هو الذي يجعلنا نكون الآراء التي نحملها عن الكتب وتشكل جزءاً من شخصيتنا. لا ينبغي علينا توجيه اللوم لأنفسنا على نسيان أي شيء قرأناه. كل إنسان ينسى حتى عظماء المفكرين. ينبغي علينا ان نعزي انفسنا حتى حينما ننسى فنتذكر بان القراءة ما هي إلا عملية نسيان. 
إذا وجدنا انفسنا في وضع نضطر فيه للدخول في نقاش عن كتاب لم نقرأه أو كنا قد نسينا موضوعه ، ألا ينبغي ان نشعر بالإحراج؟ كلا ، يقول بيارد ، ان كل ما نحتاج للقيام به يتمثل في تحديد موقع ذلك الكتاب ضمن السلسلة اللامتناهية التي تربط جميع الكتب إلى بعضها. ان الكلام الذي يقوله النقاد والمدرسون والمثقفون والأصدقاء عن الكتب يمكن ان يحدد موقع الكتاب في انفسنا. تكون الآراء التي نتلقاها من هنا وهناك كافية لإبعادنا عن الشعور بالإحراج. من شأن ثلاث أو اربع حقائق نتعلمها عن جيمس جويس ان تقودنا إلى بر الأمان في نقاش يدور حول رواية (يوليسيس). تتحقق قراءة النص من خلال تراكم المعلومات والمعاني الشائعة ، وهذا الأمر بالضرورة شيء ذاتي يعتمد على وجهات النظر لا يحتاج ان يكون متفقا مع آراء الآخرين. 
مع ذلك يمكن ان يبقى المرء فريسة ذلك الشعور الذي يحرمه من الأمان عندما يحتدم النقاش عن كتاب معين. بما ان بيارد كان أستاذا للأدب فلا بد من انه واجه مثل تلك المخاطرة اكثر من الكثير منا. ربما يثبت القارئ المجتهد قدرة مذهلة على ممارسة الخداع في هذا المجال. قد يمضي المرء حياته كلها محتميا بمظلة من الكتب التي لم يقرأها. يتحدث المؤلف عن كل هذا ويصمم منظومة مفيدة ، فهو يصنف الكتب إلى عدة أنواع “كتاب لا اعرف عنه شيئا” ، “كتاب قلبت صفحاته” ، “كتاب سمعت عنه” ، “كتاب نسيته”. هناك أيضا علامات ناقص وزائد ــ لذا فالكتاب ربما يحمل علامتي زائد اذا كان ما سمعته عن الكتاب قد دفعك لقراءته بالفعل. مثل ذلك التصنيف الذي يضعه المؤلف ربما ينطوي على شيء من العفوية وعدم الدقة اذا ما طبقه القارئ واعتبره قانونا لا يقبل الجدل. 
بالرغم من ان كتابا معينا ربما لا ينال نصيبا واسعا من القراءة ، إلا ان هذا لا يعني عدم أهمية الكتاب. لا بد من ان يحس القارئ بعدم الارتياح لأن المؤلف حينما ضرب مثلا على الكتاب الذي مر عليه مرور الكرام أو الكتاب الذي نسي مضمونه ، فقد أورد رواية (ذئب البوادي) لهيرمان هيسه. ومع ذلك فلا بد من الاعتراف بأن حتى طلبة الجامعات يمكن ان يضعوا مثل ذلك الكتاب كزينة على رفوف المكتبة حيث يتكدس عليها الغبار مثلما تحتفظ الأمهات بأنواع من أدوات المطبخ أو أطقم تقديم الشاي التي لا يستخدمنها مطلقا إلا في مناسبات نادرة. 
يبدو كتاب بيارد في الواقع مليئا بالآراء والنصائح المفيدة في مجال القراءة اكثر مما تفترضه الفصول الأولى منه. لكن من الصعوبة الاتفاق معه في الكثير من النقاط. ولا بد من ان يكتشف القارئ ان مؤلف هذا الكتاب كان قد استوعب الكثير من النصوص التي يعطيها كأمثلة على المضامين التي يتناولها، رغم انه يركز اكثر على الكتب التي تتناول النظرية الأدبية بدلا من الأعمال الأدبية التطبيقية. وعلى سبيل المثال كانت احدى النصائح العملية التي يقدمها غير قابلة للتصديق: إذا ضيقوا عليك الخناق في نقاش حول كتاب لم تكن قرأته من قبل ، عليك ان تكون غامضا في الرد ؛ اذا كان مؤلف الكتاب حاضرا عليك ان تطري على جهده. في بعض الأحيان يتناول بيارد مسائل لها علاقة بالتحليل النفسي ، فهو يعتقد ان الإحساس بالخجل من عدم كفاءتنا الثقافية “مرتبط بسيناريوهات من مرحلة الطفولة”. في واقع الأمر ربما يكون ذلك مرتبطا بالنسبة إليه أيضا بسيناريوهات تتعلق بكون القارئ فرنسيا أم لا. خارج النطاق الاكاديمي يميل القارئ العادي في بريطانيا للافتخار بما لم يقرأه ، أما إذا واجه المؤلف وجها لوجه فيقول له بصراحة جارحة “لم أسمع باسمك على الإطلاق” ، وأحيانا يضيف ،”زوجتي تقرأ الكتب ، ربما سمعت عنك.
_________
*المدى

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *