كراهية الشعر


*عبده وازن

عدد الشعراء العرب اليوم لا يُحصى. فتحت صفحات الإنترنت أمامهم فرصة ذهبية ليكتبوا كما يشاؤون وبحرية تامة، وينشروا من غير أن «يطاردوا» الناشرين، الذين باتوا يأنفون علانية من نشر الدواوين، ما خلا أعمال الشعراء البارزين و «الجماهيريين» والشعراء الجدد الذين يدفعون المال مسبقاً. وكم من شعراء مهمّين اختاروا الإنترنت لنشر جديدهم إلى جنب قديمهم بعدما يئسوا من النشر العربي ومن التوزيع والقرّاء الذين يتضاءلون يوماً تلو يوم… ناهيك عن المواقع والصفحات التي تضم الأعمال الشعرية الكاملة وما يرافقها من مقالات وسير وإضاءات.

لا أحد يعلم تماماً ما هو عدد الشعراء في العالم العربي اليوم، فالرقم الذي حملته موسوعة الشعراء العرب «الأحياء» التي أصدرتها قبل أعوام مؤسسة البابطين، وهو على ما أذكر يجاور الأربعة آلاف شاعر، لا يمثل واقع العدد الراهن للشعراء. وما يمكن أن يقال هو أنّ الأعداد كثيرة ولو أنّ الشعر قليل، بل أن الشعر يقلّ كلما ازداد العدد، تماماً كما كان يحصل في زمن الشعر العمودي، حين كان كثر من الشعراء (العموديين) يُوصفون بالمتكلّفين والمتصنّعين والمفتعلين، وكانت الأوزان تحميهم وتخفي هزالهم. أما الشعراء اليوم، فهم مكشوفون، لا أوزان لديهم يحتمون بها، ولا تراكيب جاهزة -ومستهلكة- يختبئون وراءها، وبخاصة شعراء قصيدة النثر والقصيدة الحرة المتحررة من نظام التفاعيل. وفي هاتين القصيدتين لا يصمد إلا الشعراء الحقيقيون، الشعراء الذين ينعمون بـ «ملكة» الكلمة واللغة والصورة والرؤيا والإيقاع الداخلي الذي لا تخوم له.
يزداد الشعراء ويقلّ الشعر، ويكاد قراء الشعر ينقرضون. الشعر لم يبق كما كان، «ديوان» العرب، بل هو لم يعد يعني الشعراء أنفسهم على ما يبدو، وليس القراء فقط. لو كان الشعراء وحدهم يقرأون لأحدثوا حالاً من الازدهار الشعري، ولراج نشر الشعر وانتعشت الدور الناشرة أيضاً. آلاف من الشعراء لا يُقبل إلا نزر ضئيل وأقل من ضئيل منهم على شراء الدواوين. أرقام المبيع هنا مخجلة جداً ومعيبة. حتى الشعراء الكبار والرواد و «الجماهيريون» تراجع مبيع دواوينهم تراجعاً رهيباً. ويكفي ذكر نزار قباني على سبيل المثل، حتى مبيع دواوين محمود درويش تراجع تراجعاً لم يكن متوقعاً. والحجة التي يروّجها بعض الناشرين أنّ غياب الشعراء يفقدهم قرّاءهم ويخفف من الإقبال على دواوينهم.
الشعر كائن ينقرض في أمة كان يسمى الشعر ديوانها، وهي الأمة نفسها التي قالت إحدى جماعاتها قديماً إن آدم أبا البشرية كان يقرض الشعر بالعربية، مقفى وموزوناً، وإن إبليس أخذته الغيرة منه مرة فرد على إحدى قصائده عمودياً أيضاً. هذا ما يورده أبو زيد القرشي في كتابه البديع «جمهرة أشعار العرب». الشعراء العرب كثر لكنّ الشعر قليل. الشعراء كثر إلى حدّ لا يحتمل، كثر إلى حدّ الملل. «سحقاً للشعراء/ لولا ضجري منهم / لما كتبت الشعر…»، كتب أنسي الحاج في إحدى قصائد ديوانه «الوليمة». ليس قصد شاعر «لن» هنا أن يهجو الشعر والشعراء، بل هو يسعى إلى مدحهم من باب هجائهم. لكنّ هذه الأسطر الشعرية تعبّر عن شعور عام بات شبه رائج اليوم، شعور بالسأم من الشعراء والشعر… «لقد مللنا الشعر»، تسمع كثرة من القراء، وحتى الكتّاب والمثقفين ترددها بلا حرج، وفي أحيان كثيرة لا يتوانى بعضهم عن التذمر من الشعر، مبدين عجباً عجاباً من أنّ ما زال هناك من يكتب شعراً ويسمي نفسه شاعراً… وقد لا تُفاجأ إذا رفضت مرة ومرتين ومرات، أن تعرّف بنفسك أنك شاعر، فأنت تعرف انهم لو علموا أنك شاعر لفتحوا عيونهم استغراباً وربما شفقة، فصفة الشاعر أضحت مستهجنة في عالم مادي واستهلاكي و «عملي» وغير وجداني وإنساني…
عربياً مرّ هذه السنة «اليوم العالمي للشعر» (يصادف الحادي والعشرين آذار/ مارس) بلا احتفال ولا أمسيات ولا قراءات ولا بيانات ولا تحيات… حتى في المغرب، الذي كان «بيت الشعر» فيه هو من سعى مع منظمة اليونسكو قبل أعوام إلى ترسيخ هذا اليوم عالمياً، مرّ هذا اليوم شبه عادي، على خلاف الأعوام الماضية التي كانت تحتفل مدن مغربية عدة به. أما العواصم العربية التي اعتادت أن تحتفل بهذه المناسبة، فبدت غائبة عن موعدها السنوي هذا، وكأن الشعراء والنقاد والقراء نسوا جميعا هذا اليوم. لكنّ اللافت أن «ربيع الشعر» الذي تحتفي به باريس ومدن فرنسية كثيرة، مرّ هذه السنة بخفة الطيف، ومن دون ضوضاء، وهو كان عادة مناسبة للاحتفال العام وشبه الشعبي ولنشر الدواوين والمختارات…
هل بدأ زمن «كراهية الشعر» في عالمنا؟ هل هجرت «ربات» الشعر الإغريقيات عصرنا إلى غير رجعة؟ أستعير عبارة «كراهية الشعر» من عنوان كتاب للفيلسوف والشاعر الفرنسي جورج باتاي في غير سياقها، فهو قصد بها كراهية الشعر الباهت والعديم، الشعر الذي لا يلتقي فيه «الكذب وحقيقة الرغبة» في حال من «العذوبة اللامتناهية التي ليست سوى نهاية البؤس».
الخوف، كل الخوف، من أن يكون زمن «كراهية الشعر» الذي بدأ يلوح في عالمنا هو زمن الكراهية في معناها الحقيقي وليس المجازي. الخوف أن تقتحم الكراهية هذه تخوم المجاز والحقيقة في آن واحد.
______
*الحياة

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *