في الدفاع عن كافكا


*نجم والي

ليس هناك كاتباً من كتّاب اللغة الألمانية أثر في أجيال عديدة في العالم مثل فرانتز كافكا، وأن محبيه ليسوا بالضرورة هم فقط شركاؤه في المواطنة أو في اللغة الألمانية التي كتب بها. كافكا يملك أخوة في الروح والعذاب، على طول الأرض وعرضها، بغض النظر عن اللغة والبشرة والدين. “آه، كم هو طويل الطريق للآخرين بالنسبة لي”. حتى اليوم ما زال بينه وبين أولئك الذين لم يفهموه، أينما كانوا مسافة طويلة. أما شركاؤه الذين يتقاسمون معه القلق الوجودي والخوف من الحياة ويكتبون عن تشرد ونفي الإنسان، فيتوزعون هم الآخرون على خارطة العالم. قائمة طويلة تلك التي يمكن أن تضم أسماء الكتاب العالميين الذين تأثروا بكافكا، ويكفي ذكر بعض منها: وليم فوكنر، غارسيا ماركيز، جورج أورويل، ميلان كونديرا، باول أوستير وأورهان باموك … وغيرهم. ولكن بعيداً عن الأسماء المشهورة هذه، ماذا عن الجيش المجهول ذاك: الكتاب المجهولون الذين لا نعرفهم حتى الآن.

تأثير كافكا الذي وُلد وترعرع في براغ على أجيال عديدة من كتّاب وقراء في العالم كان جلياً دائماً. كافكا فتح عيوننا على رؤية الحيف الذي يلحق بالإنسان ورعب المؤسسات ووحشية ماكنة النظم التوتاليرية. ليس من الغريب أن يتحول الحديث عن جمال وعظمة أدب كافكا، بإعتباره جزء مهم من الإرث الإنساني، إلى الحديث عن الحرية، ومقاومة الأنظمة الشمولية.
هذا التأثير ربما تمناه كافكا عند كتابته نصوصه. أمر مفهوم، فأي كاتب لا يحلم بأن تصبح نصوصه مقروءةً في كل مكان، لكنه بالتأكيد لم يحلم بأن تأثيره سيصل إلى هذا الحجم.
لكن ما لم يفكر به كافكاً أبداً في حياته، بأنه سيُقطع عن بعض، سيساء فهمه، أو أقله بأنه سيتحول إلى موضوع لمعركة لها علاقة بالإنتماء العرقي أو القومي أو على أقل تقدير لها علاقة بالمال، بالصراع على الأرث! أو ربما عرف ذلك، ألم يطلب بحرق مخطوطاته بعد موته؟
أية مفارقة أن يصبح هو بالذات، الذي مات وحيداً وفقيراً في غرفة صغيرة في مصح في مدينة كيرلينغ (اليوم حي من مدينة كلوستيرنويبورغ) في النمسا عام 1924، ضحية للسياسة والجهل والعنصرية، ضحية للجشع والاحتيال. كافكا الذي لم يكن متديناً أو داعياً لأيديولوجية ما، سينتهي لاحقاً، بعد أن تشتهر أعماله عالمياً، إلى أيدي طباخي الأيديولوجية في كل مكان، يقطعونه، يمزجونه ويطبخونه في قدورهم حسب حاجتهم. في المنطقة العربية مثلاً، وخاصة تحت ظل تلك الأنظمة التي أطلقت على نفسها: “الديموقراطيات الشعبية”، الحليفة السابقة للتوتاليرية الإشتراكية والوريثة لأفكار “الواقعية الإشتراكية” المنقرضة، تعرض كافكا إلى مفارقة عبثية. فبالذات إنتماؤه اليهودي الذي ألحق به الحيف في أوروبا المعادية للسامية آنذاك، تحول إلى تهمة شنيعة ضده في البلدان العربية “الثورية” التي تصرخ ليلاً ونهاراً بحربها “ضد الإمبريالية والصهيونية”، حتى أصبح الدفاع عن كافكا يمكن أن يقود إلى السجن.
من يتذكر الحملة المسعورة ضد كافكا والتي بدأت أولاً في في عراق “صدام حسين”؟ في سنوات السبعينات صحونا فجأة على مجلة الأقلام، إحدى المجلات الثقافية الرسمية التي كانت تصدر عن وزارة الثقافة والإعـ(د)ام، تخصص سلسلة من الدراسات المتخصصة في الأدب الصهيوني. وفي كل تلك الدراسات كان يبرز اسم كافكا على رأس القائمة. انها لمفارقة أيضاً أن أحد الذين رفعوا راية الهجوم على كافكا “الصهيوني” هو ليس غير الشاعر العراقي الشيوعي، أو “الشيوعي الأخير”، كما يطلق على نفسه، صاحب الأخضر بن يوسف سعدي يوسف والذي فتح النار عليه بمقال ترجمه وأعده في حينه لمجلة الأقلام الرسمية تحت عنوان: “كافكا صهيونياً”. صهيوني هي رديف لإسرائيل طبعاً، إسرائيل التي نشأت بعد وفاة كافكا بأربعة وعشرين عاماً!
في الثمانينات نشطت هذه الحملة أكثر بالتوازي مع تصاعد عدوانية النظام العراقي وإعلانه الحرب على إيران، ومع تصاعد ثقافة “عربية” عدوانية عنصرية سائدة، ضد كلما هو إنساني، بحجة الدفاع عن ثقافتنا ضد “عدوانية الثقافة الغربية” ولإفشال المؤامرة “الصهيونية” العالمية ضدنا. وللمفارقة فقط، بارانويا العدو “الغربي” والمؤامرة، الأسطوانية المشخوطة هذه والتي ما زال منشدوها من العاطلين عن الأدب موجودين حتى اليوم، جعلت أدوارد سعيد ورفاقه “المناضلين”، يذهبون إلى الوراء آلاف السنين قبل ميلاد المسيح، لكي يكتشفوا “عدواً إستشراقياً لنا”، نحن العرب “الأنقياء”، شعب الله المختار. نعم، أنه العمى والديماغوجية وليس غير ما جعل “مفكراً” فلسطينيا لكن يحمل الجنسية الأميركية ولم يولد في القدس كما إدعى، مثل أدوارد سعيد، يدافع عن حقوق شعبه “المغتصبة”، يلصق بشاعر أغريقي، بعد أكثر من ألفين وخمسمئة عام، تهمة العداء للشرق، لأنه أنشد شعبه في دفاعه ضد إمبراطورية فارس في هجومها على بلاد الإغريق، بل أعتبره دليلاً على العداء “الأوروبي” المتأصل ضد الشرق (أدوارد سعيد يستشهد في بداية كتاب الإستشراق بمقطع مأخوذ من مسرحية “الفرس” لأسخيلوس، 525-456 قبل الميلاد، يعتبره دليلاً على عنصرية أسخيلوس “الغربي”!)، تنشد فيه الجوقة ضد الفرس: “الآن تنوح أرض آسيا كلها، بحس الخواء، كسيركيس قائد الجيوش إلى الإمام!”. الطريف هو أن رفاق أدوار سعيد وحلفاءه اتهموا العراقيين من معارضي صدام حسين بكونهم عملاء للفرس!
المخيلة العصابية المريضة تلك برعت في نبش التراث الإنساني ووضعت الحجر الأساس لثقافة، موضوعها “الشك في الآخر”، والكشف عن النوايا “الصهيونية” أو “التآمرية” للكتّاب الغربيين.
ويزداد الشك وتتعزز التهمة خاصة إذا كان الكاتب يهودياً بالوراثة! ليس من الغريب إذن أن يهجي شاعر فلسطيني مثل محمود دوريش، كافكا وبهذا الشكل العنيف.
في قصيدة لدرويش، يخاطب فيها شاعر عراقي (يبدو أنه من غير محبيّ كافكا)، ذكر درويش كافكا في سياق غير مبرر (في سياق حرب الكويت عام1991، والتي كانت في الخطاب القومي: حرب العدوان على العراق):
“وأولد منك وتولد مني، رويداً رويداً سأخلع عنك…
أصابع موتاي، أزرار قمصانهم، وبطاقات ميلادهم…
وتخلع عني رسائل موتاك للقدس،
ثم ننظف نظارتينا من الدم، يا صاحبي،
كي نعيد قراءة كافكا…
ونفتح نافذتين على شارع الظل”.
لحسن الحظ رد عليه في حينه الشاعر العراقي المنفي الذي توفى وحيداً في منفاه في هولندا، ابن الناصرية، كمال سبتي ليخاطبه متسائلاً: لماذا على كافكا أن يتحمل هنا وزراً غريباً ظالماً، وغير معقول، ولا إنسانياً من مآساتنا: “ثم ننظف نظارتينا من الدم، يا صاحبي، كي نعيد قراءة كافكا”، أحقاً يستحق كافكا ضمير الكائن الأعزل والغريب والمسكين والمسحوق في الأدب شتيمة قاسية كهذه؟ تقول لي: “أنت الشاعر العراقي المخاطَب وأنا الشاعر الفلسطيني المخاطِب”، كي نعيد قراءة كافكا. ومن من أجل ماذا؟ من أجل ألا ننخدع ثانية وحتى ننتصر؟ (جريدة الحياة 10 أكتوبر2004). فات الصديق كمال سبتي، الشاعر الاستثنائي الأصيل، الذي ذهب إلى عالم آخر مع نبالته الشعرية، سؤال درويش في حينه: “ننتصر؟ على من؟ على كافكا؟ وبإسم من؟”.
درويش هو واحد من قطيع مثقفين عرب “مناضلين” تسابقوا على تفريغ كافكا من محتواه الإنساني بدعوى أن كتبه تتحدث عن غربة “اليهودي” الأبدية وأن نصه الذي حمل عنوان “العرب وأبناء أوى” هو دليل معاداته للعرب. كان لابد لي من تذكر ذلك كله في هذه الأيام.
هكذا هو الأمر! البعض يحتاج إلى جملة واحدة أو مقطع ما في نص لكي يثبت “ألا ترون، كم أنا على حق!” عندما قررت محكمة إسرائيلية قبل فترة بأن ينتهي إرث كافكا الأدبي (الذي تحتفظ به صديقة ماكس برود، صديق كافكا وناشر أعماله) إلى المكتبة الوطنية في القدس وليس إلى إرشيف الأدب الألماني في مدينة مارباخ الألمانية، أثنى أحد المشرفين في المكتبة على القرار، معللاً ذلك بأن كافكا (الذي لم يزر القدس أو فلسطين في حينه يوماً!) ينتمي للقدس! ودليله على ذلك هو الدفتر القديم الذي عرضه أمام الصحفيين، والذي كتب فيه كافكا بخط يده بعض الكلمات العبرية. حسب المشرف الإسرائيلي هذا، كافكا أراد تعلم اللغة العبرية في آخر أيام حياته، لأنه قرر الهجرة للقدس، لكن الموت فقط هو الذي منعه!
في “القضية”، أحد أعمال كافكا الرئيسية، يقدم بطله، جوزيف ك للمحكمة في قضية لا علاقة له بها. نفس الأمر يحدث لكافكا تقريباً. إنه يُحكم بالإنتماء إلى قومية دون أن يُسأل عن ذلك! في بعض المرات هو نمساوي، في مرة أخرى ألماني، مرة صهيوني، في مرة أخرى إسرائيلي، ولأنه وُلد عام 1883 في براغ التي كانت آنذاك تابعة لمملكة النمسا – هنغاريا، فإنه، حالما يحقق الهنغاري الفاشي فيكتور أوربان (رئيس الحكومة الهنغارية الحالي) المملكة الهنغارية التي يدعو إليها، سيصبح كافكا الهنغاري! كأن من الممكن تصنيفه هو الذي مثله مثل كل كبار الأدب العالمي، لا ينتمي إلا إلى نفسه، كأن يمكن تصنيفه أو ضمه إلى عشيرة ما أو قومية…أو نسب!
________
* روائي عراقي يقيم في برلين والمقال نُشر في الصحيفة اليومية دي تاتز الألمانية الواسعة الإنتشار. وخص الكاتب نصه العربي جريدة العالم.

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *