الفكر


د. محمد عبد المطلب

( ثقافات )

هذه المفردة تعني (إعمال العقل) والتأمُّل والتدبُّر الواعي للمعلوم للوصول منه إلى المجهول، مع استخدام وسائل الفكر من (تحليل وتركيب وتنسيق)، بعيداً عن الاندفاع العشوائي، والإسراع بطرح الآراء المسطّحة غير المدروسة. وقد اهتـــــمَّ العلماء قديماً وحديثاً – علــــى المســـتوى الإنساني – بهذه المفردة تفسيراً وتحليلاً، وانتهوا إلى أن الفكر له مستويات ثلاثة، هي: (الفكر العملي)، و(الفكر العلمي) و(الفكر الفلسفي)، وانضاف إليها ما يمكن أن نسمّيه (الفكر الديني).
أما الفكر العملي، فهو ذلك الفكر الذي يتابع مفردات الواقع الجزئية التي تحيط بالإنسان مثل: (الإنسان والحيوان والسماء والأرض واللون والنور والظلام)، أي المفردات التي يتعايش معها الكائن البشري، أما الفكر العلمي فهو المعني برصد قانون تلك الظواهر، أي أنه يتجنَّب المفردات ليصعد إلى قانونها الذي ينظِّمها، أي (القانون الإنساني) و(القانون الحيواني) و(القانون النباتي) إلى آخر هذه القوانين الوجودية.
أما الفكر الفلسفي، فهو الذي يرتفع عن القوانين الجزئية التي تتناول الموجودات التي أشرنا إليها، صاعداً إلى القوانين الكلّيّة التي تحكم مجموعة الظواهر السابقة فللكائنات الحيّة قانونها، وللجمادات قانونها وهكذا، أما الفكر الديني فهو الذي يجمع بين (النقل والعقل) في تنظيم الحياة، والربط بين العالم الأرضي والعالم السماوي في ثلاث دوائر، الدائرة الأولى: (دائرة العقيدة) والثانية: (دائرة العبادة) والثالثة: (دائرة المعاملات) ولا اجتهاد مع الدائرتين الأولَيَيْن، ويأتي الاجتهاد مع الدائرة الثانية إعمالاً لقوله صلى الله عليه وسلم «أنتم أعلم بشئون دنياكم».
يعنى هذا أن الفكر يبدأ من الالتحام بالواقع المباشر، ثم يصعد إلى التجريدات الكلّيّة التي تستوعب الوجود على إطلاقه، فإذا لم يتمّ هذا الالتحام تحوَّلَ الفكر إلى (كلام في كلام) أو (كلام على الكلام)، ولا نقصد بالواقع هنا الواقع الدنيوي فحسب، وإنما يشمل هذا الواقع الدنيوي والمقدَّس على صعيد واحد.
ونلاحظ أن مستويات الفكر التي عرضنا لها كانت حاضرة في الواقع العربي، ولكنها مَرَّت بثلاث مراحل: والأولى (مرحلة التأسيس) التي بدأت في القرن التاسع عشر، ولم تحقق المرجو منها، لأن العالم العربي كان خاضعاً للسلطة الاستعمارية مع غيبة القوى الشعبية الفاعلة، لكن للمرحلة أهميتها من حيث كونها تمهيداً للمرحلة الثانية التي بدأت في أخريات القرن التاسع عشر، وامتدَّت إلى منتصف القرن العشرين، إذ أخذت القوى الشعبية والوطنية تمارس بعض التأثير في الواقع، وإن ظل تأثيرها محدوداً، لكنه وضع علامات يهتدي بها السائرون في طريق الفكر والثقافة لبناء حاضرهم والتطلُّع إلى مستقبلهم. أما المرحلة الثالثة، فهي التي نعيشها ونعايشها اليوم، وهي مرحلة تداخلت فيها مستويات الفكر، اختلفت المعايير التي تقاس بها الظواهر، ومن أهمها معيار (النقل والعقل) حيث تغلَّبَ (النقل على العقل)، واحتلت الخرافة مكانة واضحة في الفكر، وربما كان هذا وراء بعض الظواهر السلبية في الواقع، من مثل (التواكل)، وإيثار (الكسل الذهني)، وغياب الروابط المنطقية من (العلّة والمعلول) و(السبب والمسبِّب) ومن ثَمَّ انغلق باب الاجتهاد، وهو ما يعني أن الفكر تحوَّل إلى نوع من (الغيبوبة) العقلية بعيداً عن (الفكر العملي والعلمي)، وبعيداً عن الوعي الفلسفي.
ويكاد المفكِّرون في هذا الزمن يكونون أشبه بشخص يسير في الطريق العام، الكلّ يتقدَّم إلى الأمام، وهو يتحرَّك بظهره إلى الوراء، وهو بهذه الحركة مُعَرَّض لكل مخاطر الطريق المفاجئة وغير المفاجئة، التي يمكن أن تأتيه من خلف ومن قدّام ومن الجانبين. ويمكن أن أستثني من هؤلاء السائرين فئة محدودة احترمت ماضيها ولكنها لن تسكن فيه، وانفتحت على الجديد دون أن تذوب فيه، ومع اهتمامها بحاضرها دائمة التطلُّع إلى مستقبلها، تأخذ من الماضي ما احتفظ بشرط الصلاحية، وتأخذ من الوافد الجديد ما يوافق هويَّتها الثقافية، ويمكن أن نطلق على هذه الفئة تسمية تراثية هي: (الفئة الناجية) التي سوف تعيد للفكر سياقة الصحيح، وتخلِّصه من الشوائب التي علقت به في بعض اللحظات الظلامية.
_____
*الدوحة

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *