كتابة غاضبة


*يوسف ضمرة

لا أحد في مقدوره أن يتخيل مرور هذه التراجيديا العربية من دون أن تسم الكتابة العربية في العمق، هذا ما بدأنا نلاحظه في كتابات سريعة على «فيس بوك» ومواقع التواصل الاجتماعي الأخرى.

ولعل أهم ما يميز هذه الكتابة هو أنها لأسماء ليست ذائعة الصيت، بل ليست معروفة في عالم الكتابة، الأمر الذي يحرر أصحابها من ثقل الاسم وتبعاته، كما أن النشر في هذه المواقع لا يلتفت إلى معايير النشر في الصحافة المألوفة.
ثمة كتابة الآن بلغة عارية، ومن دون مراعاة لما كان يسمى قديماً بالحياء العام أو الذوق العام، وخلال هذه الكتابة يجري التعبير عن واقع عربي مأساوي بكل حنق، ومن دون تزويق في اللغة أو حتى مراعاة للنحو والصرف في كثير من الأحيان. أنا بالطبع لا أدعو إلى هذا التفلت كله، لكني أشعر بأن هذه الكتابة تجد لها وقعاً كبيراً عند عامة الناس والمتابعين، وهو ما يعني أنها ستؤثر بطريقة أو بأخرى في الكتابة العربية اللاحقة، أو التي هي قيد الإنجاز.
نتذكر في هذا السياق أشعار أحمد فؤاد نجم، والظروف الموضوعية التي أنتجتها، نتذكر أشعار نجيب سرور، نتذكر بعض قصائد إبراهيم طوقان، ما نشر منها وما لم ينشر، بل جرى تداوله شفوياً بين الناس.
في أوج صعود الليبرالية الجشعة في العالم الغربي، نشأت مدرسة الواقعية القذرة في الكتابة، وهي الكتابة التي مثّلها كل من رايموند كارفر وروبرت فورد وبول أوستر. والمدقق في بعض كتابات الواقعية القذرة، يكتشف أنها جاءت رداً على محاولات الثقافة الفردية وتوابعها هناك، الرامية إلى تصوير التطورات الاجتماعية والتغييرات كأنها تحقيق للحلم الأميركي الذي تبناه الغرب كله. والرد على هذه المحاولات جاء روائياً وقصصياً في هذه الواقعية القذرة، ليعري المجتمع الأميركي من الداخل، ويكشف زيف ادعاء الثقافة السلطوية، فالثيمات التي تناولتها تلك الكتابة كانت تتوزع على الأسرة والعلاقات الاجتماعية والعائلية التي تصور المجتمع من زاوية لا يلتفت إليها الإعلام، فبينما يطبل الإعلام الغربي لمقولة «دعه يعمل، دعه يمر»، بوصفها وصفة سحرية لتطور المجتمعات، تأتي رواية الواقعية القذرة لتقول لنا «انظروا من هو هذا الذي يعمل ويمر.. انظروا كيف يعيش مع زوجته، وما مدى اهتمامه بقيم العائلة والقيم الإنسانية العامة». ففي قصة لرايموند كارفر تحدث مشكلة بين الزوجين، وتسير أمورهما في اتجاه الانفصال، لكننا فجأة نرى الطفل محمولاً من كليهما، وكل منهما يشده في اتجاهه كدمية، لأن حكاية التميز الفردي قد تغلغت في النفس هناك، ولم تعد تبالي بمصير الآخر وبمشاعره، حتى لو أدى ذلك إلى قتل طفل. وفي روايات بول أوستر البوليسية يبدو المواطن الأميركي ملاحقاً من قبل نفسه على مدار الساعة وحيثما وجد. وفي رواية لروبرت فورد يبدو المواطن مخادعاً، وتبدو الأسرة كلها مبنية على هذا الخداع، طالما كان المال هو الهدف الرئيس.
ما نعنيه بمثال الواقعية القذرة هو أن الشروط الموضوعية دائماً ما تفرض نفسها، وهو ما رأيناه في كتابة تبدو كأنها تتلمس طريقها من دون حذر. وطالما بدأت مثل هذه الكتابة، فهي ــ كما نظن ــ قادرة على الإلقاء بظلالها على الكتابة العربية، لنشهد لاحقاً كتابة بلغة عارية، وربما غاضبة من دون مراعاة للمعايير الأخلاقية المتعارف عليها.
____
* الإمارات اليوم

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *