الظلّة


*فراس الشاروط

في الحرب ليس هنالك من فائز أو خاسر ، الإنسانية وحدها هي من تتهدم ، هذه كلمات المخرج (تيرنس مالك) عند إجابته على سؤال ( ستيفن سبيلبرغ ) حول ماذا أراد قوله في فيلمه ( خط رفيع أحمر).

الحرب جنون ، هكذا هي بلا عناوين ، بلا أسباب معلنة أو حتى مستترة ، لذا تكون هزيمة الإنسان هي نهايته ، كتاريخ ، وحضارة ، ووجود ، وما أن تضع اللعنة أوزارها حتى تبدأ حرب أخرى ، حرب الواقع المزري الذي خلفه الدمار النفسي والمعنوي ، والذي يحاول المثقفون (أدباء وفنانين ) أن يحولوه إلى ثيمة حاضرة أو قانون عام ثابت بدلاً من مواجهة هذا الواقع ومعرفة أسباب انهياره ، لتتفاقم أزمة الإنسان وتتحول الهزيمة إلى رحلة للحزن الذي لا ينفك منه سوى بالخاتمة الأبدية اللعينة .
( الظلة) فيلم المخرج الأسترالي ( آرون ويلسون) المبهر فنياً وفكرياً يعد واحداً من أفضل أفلام الحروب رغم تضارب الآراء حوله ، وهو ما زاد المتلقي حيرة وارتباكاً ، فالاستخدام الأمثل للضوء والظل بدرجاتها المختلفة وتشابكها الجميل ، والتوليف المثير ، وتركيب الصوت وهندسته الحيوية المتعددة المستويات والمكثفة ، أعطى هذا الحس المرئي المتوقد للصورة .
ما أن تخرج من سحر المشاهدة الأولى حتى تتوقف متأملاً وبهدوء ظلة ولسون هذه ، لقد حاول المخرج قدر الإمكان أن لا يقدم لنا الحرب نفسها ، بل ظلها ، أشعرنا بها ، أحسسناها، وأحسسنا قسوتها على البشر مع كل مشهد ، مع كل حركة للبطل التائه وسط الغابة الخاطفة للأنفاس ، غابة الروح ، التي أضافت حالة من الشد النفسي ، فهي توفر أجواء مثالية ، حامية وعدائية في الوقت نفسه ، مكرساً إياها كموقع لاستجلاء ( قلب الظلام ) البشري ، بازدواجيتها الوحشية وجمالها ، ليشعرنا بالهزيمة والرعب بتقاطيع الوجه ، بالخوف ، بالنظرات الزائغة ، هزيمتنا البشرية ، لم يبحث ، لم يحلل ، بل تركها تتسرب إلينا مثلما هي : قدر ، فرض على البشرية .
كنا نتحسس ضياعنا مع بطله وسط تلك الغابة بكل ما تحمله من دلالات ، التيه ، الرعب، الجمال، لتأتي بعد ذلك النهاية المنطقية ، العجز والموت ، وكأن السيارة التي تبتعد بالبطل في طريق ترابي طويل لا بداية له ولا نهاية مترنحاً من اهتزاز وعورة الطريق ، يائساً ومستسلماً ، ما هو إلا طريقنا الذي لا نعرف إلى أين يقودنا بعد الخروج من الغابة / المتاهة / الحرب .
رغم سوداوية الفيلم يبقى ذا أهمية كبيرة إذا ما قورن بالعديد من الأفلام الحربية التي تتعامل أغلبها ( خصوصاً الهوليوودية ) مع البطولات المجانية والافتراءات المفبركة ، فيلم آرون ويلسون هذا يتمتع بذلك السحر الذاتي ، فهو يترك عند المتلقي هذا الشعور بالاندماج لإصرار الإنسان على الخروج من المحنة التي وقع فيها حياً ، هذا الشعور بالتعاطف مع الآخر ، الجندي الصيني المناضل التائه مثله ، والذي لا يفهم لغته ، لينشأ بينهما ذلك التواصل الإنساني والمحافظة على بقاء الآخر والدفاع عنه ، ثم البكاء عليه حتى دون معرفة اسمه .
الفيلم حاله حال الأفلام المهمة يترك لنا هذه التساؤلات التي تنخر دواخلنا عن وجودنا ، وعن جدوى الحرب ، عن تلك الرحلة الطويلة التي نقطعها من اجل حرق أرض الآخر ونحن لنا أرضنا أيضاً الخضراء، عن المسيرة الأوديسية في الغابة / الجحيم ، نحو الحياة / الفردوس التي لم يصلها .
لم تكن رحلة ذلك الطيار الذي ينقذ نفسه بعد سقوط طائرته في الغابة والأرض حوله تشتعل بالنيران ، فيما انتشر جنود المشاة اليابان يبحثون عنه ، في معركة تحرير سنغافورة ، التي تعد واحدة من أشرس معارك قوات الحلفاء في المحيط الهادئ خلال الحرب الكونية الثانية ، سوى رحلتنا الذاتية للنجاة ، فالبطل الشاب هو سجين طبيعة تفقده الإحساس بالزمن ، والاتجاه، كل وجهة تؤدي به إلى اللامكان.
مع فيلم طويل دون حوار يصبح “الظلة “باكورة أفلام المخرج الشاب آرون ويلسون تجربة حسية غامرة عن كائنين بشريين من أعراق وثقافات مختلفة خلقا حالة تواصل إنسانية بينهما ، ورغم قصر العلاقة بينهما إلا أنها تبقى ذكرى مكلومة تعيش أبد الدهر.
_______
*المدى

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *