استئناف مشروع التجديد


*جمال العسكري

ليس من المصادفة في شيء أن يحتفى بطه حسين عميد الأدب العربي في مثل هذا الظرف التاريخي الذي تمرّ به مصر، ويمرّ به العالم العربي بل العالم أجمع.. فهو علامة على رغبة ملِحّة في السعي نحو استعادة ترتيب أوراق الثقافة العربية التي سبق أن استفرغت من طاقات جيل الرواد الكثير من الجهد والكَدّ في سبيل النهوض بها، وكان من الأولى بنا نحن- أبناء الألفية الثالثة- أن نمضي بالأمور إلى الأمام.

من هنا يصبح الاحتفاء بطه حسين وغيره من زعامات التجديد في تاريخ الثقافة العربية نوعاً من تأكيد الثبات على عقيدة التجديد مهما كلَّفنا الأمر من مشقّة وعناء.. وطه حسين نفسه أحد هذه العلامات البارزة على هذا الطريق، ولعلّ في سياقات معاركه الأدبية والفكرية مجلىً واضحاً لدور المثقَّف الجادّ.
وضرورة إعادة قراءة من جديد ليست على سبيل الوقوع في أسر الماضي والاكتفاء بتأمُّله والاحتفاء به، وإنما على سبيل استئناف حركة تجديد ناقد يقوم على وعي بالجدل بين الماضي والحاضر للوصول إلى جديد يرفع الركون.
ولعل أبرز وجوه طه حسين هو وجه الفارس الباحث دائماً عن التغيير والتجديد إلى حَدّ الاستفزاز أحياناً، وهو الرجل الذي لم يكن يعود إلى ما كتبه بالتنقيح أو التعديل إلا في حادثة واحدة هي حادثة الشعر الجاهلي، حيث أعاد طرح أفكاره بمناورة جديدة لم تعدم الوصول إلى غايتها من رسم خارطة للوعي تستلهم العقل، وتبني يقينها على سبيل من التجريب حتى وإن دفعها إلى الشطط أحياناً.
وجانب المعارك في أدب طه حسين أوضح جوانب الرجل، بل إننا نزعم أن هذا الجانب هو الذي سيبقى منه شاغلاً الناس في كل وقت، محرِّكاً خيالهم الخلّاق في فهم الماضي وأسراره التي لابد أنها كامنة في الحاضر إن لم تكن من أهم محرِّكاته أيضاً.
لهذا لابُدَّ ألّا تحكمنا في قراءتنا لطه حسين وغيره من زعامات عصره الفكرية والأدبية – سواء في سياقنا هنا سياق المعارك أو في غيره- سوى غاية الوعي المعرفي الدقيق القائم على الفهم العلمي الذي لا يعني في النهاية سوى فهم الواقع بمعضلاته التي تحتاج هي الأخرى إلى إدراك أعمق بالماضي لاستكمال حركة الحياة في اتجاه التطوُّر المنشود.
هذا على مستوى الرؤية العامة، أما على مستوى الرؤية الخاصّة بطه حسين فلا بدّ من اعتماد عدد من المقدِّمات المنهجية للوعي بالتجربة الثقافية لدى «طه حسين»، خاصة أن الرجل يملك – وحده- أكبر رصيد من المعارك الأدبية والفكرية بوجه عام، أكان حَيّاً أم ميتاً. وربما زادت المعارك حوله أكثر بعد وفاته.
وأولى هذه المقدِّمات المنهجية، المقدمة التاريخية، وهي مقدمة تحاول استيعاب «طه حسين» من خلال أفكاره سواء منها ما قبلناه أو ما رفضناه- إذ يُعَدّ دفقة من دفقات الحضارة العربية الإسلامية شئنا أم أبينا، وذلك باعتباره ابناً من أبناء هذه الحضارة، ومن ثم فأفكاره في الأغلب تحمل الكثير من سمات هذا المخزون المعرفي الضخم للحضارة العربية الإسلامية بمستوياتها المتعدّدة سياسياً، واقتصادياً، ودينياً، وأخلاقياً..
ولابدّ من دراسة أفكار «طه حسين» في سياقاتها التاريخية مع مراعاة تتابعها التاريخي وذلك لعدد من الأسباب منها: أن طه حسين نفسه- بتوجُّهه المنهجي بوجه عام- كان نحواً اجتماعياً بملامح تاريخية نوعاً ما، وقد آمن مبكراً بأن الأديب ثمرة للواقع الاجتماعي المحيط به، بل إنه كان كثيراً ما يربط بين فكر الأديب وإبداعه، ومراحل هذا الأديب العمرية. وكذلك لأن إن هذه المقدِّمة التاريخية منهجياً تتناسب وطبيعة طه حسين شخصياً بوصفه عقلاً مفكِّراً متمرِّداً صرفاً وبراجماتياً إلى حَدّ ما، حيث تملكه لحظة التفكير ذاتها، فيملي حاصل هذا الامتلاك من واقع تأثّره المباشر بمعطيات هذه اللحظة إن على مستوى الذات أو السياق المجتمعي المحيط به.
وليس من شكّ في أن نزوع طه حسين الدائم نحو المعرفة بدافع من رغبته في التجديد، كان وراء نهمه الدائم نحو كل جديد؛ وهو الأمر الذي أدّى به إلى الانفتاح العقلاني الدائم وإلى تعدُّد المواقف لديه.
وربَّما وافقَنا البعض حول تعدُّد مواقف طه حسين على نحو قد لا نجده عند غيره، فنجد منها ما هو على سبيل التجاور حيث يعضد الموقف موقفاً آخر وإن اختلفا في الموضوع، ومنها ما هو على سبيل التداخل الداعم، حيث يعضد الموقف موقفاً آخر لتشابه واضح بينهما من خلال الهَمّ أو الموضوع المشترك، ومنها ما هو على سبيل التضاد، حيث يصبح أحد الموقفين ناقضاً أو رافعاً للآخر، سواء اللّاحق للسابق، أو السابق للّاحق، ويبقى للسياق العام الفصل في الموقف النهائي.
وليس من شَكّ في أن هذه المقدِّمة التاريخية بوصفها المنهجي هي واحدة من أفضل المقدِّمات المنهجية لدراسة طه حسين في سياق معاركه الفكرية والأدبية، ثم في سياق الفكر المصري، وأخيراً في سياق الفكر العربي.
إن فهم معارك طه حسين يقتضي بالضرورة وضع هذه المعارك في إطار المراحل الفكرية التي مَرَّ بها، وهي التمرُّد والثورة، ومرحلة الشعر الجاهلي، ومرحلة التردُّد والازدواجية من 1928 حتى 1938م، و مرحلة مستقبل الثقافة في مصر، ومرحلة النضج والوضوح من 1939 حتى 1967م، مرحلة مرآة الإسلام والفتنة الكبرى. كما يقتضي هذا الفهم التمييز بين الثابت والمتغيِّر في اتجاهاته الفكرية. وكذلك التمييز بين القضايا الحقيقية والزائفة لديه باعتبار حاجة المجتمع – بالنسبة للنهوض والتغيير الحضاريين الشاملين – هي المعيار الفاصل بين الحقيقي والزائف. ثم إدراك طبيعة الاتجاهات الفكرية لدى طه حسين من حيث سماتها العامة سواء في سياقاتها الجزئية أو الكلّيّة، مثل جدليّتها، وعقلانيتها وواقعيّتها، وإصلاحيّتها.
______
*الدوحة

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *