الكتابة الإبداعية المشتركة


*هيثم حسين

لعل تجربة الراحلين عبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا في روايتهما المشتركة البديعة “عالم بلا خرائط” هي أنصع مثال يمكن تذكره في سياق الحديث عن الكتابة الأدبية المشتركة في التجربة السردية العربية المعاصرة.

وقد امتازت كتابتهما بالتميز والانسجام والتناغم إلى حد التماهي بين شخصيتي الكاتبين في عملهما، بحيث استعصى على الدارسين الفصل بين أسلوبهما أو الإشارة الفاصلة إلى أن هذا المقطع أو هذا الفصل لهذا الكاتب أو لشريكه، ومن هنا تمتعت تلك التجربة بالفرادة والاستمرارية.
وفي السنوات الأخيرة تعددت التجارب الإبداعية المشتركة، ففي سوريا نشر كل من عامر الدبك وبهيجة مصري إدلبي روايتهما “ألواح من ذاكرة النسيان”، وخطيب بدلة وإياد محفوظ كتاب “المستطرف الليلكي”، وعبد اللطيف الحسيني وغسان جانكير مؤلفهما “في رثاء عامودا”.
وفي لبنان نشرت عدة أعمال بتوقيع مشترك، منها “ربيع المطلقات” لنزار دندش ونضال الأميوني، و”يوميات آدم وحواء” لنزار دندش ونرمين الخنسا، و”ملك اللوتو” لجهاد بزي وبشير عزام، وفي مصر نشر يوسف نبيل وزينب محمد روايتهما المشتركة “في مقام العشق”.
ويختلف التعاطي مع العمل الإبداعي عن التعاطي مع العمل التأليفي البحثي والاجتماعي، ذلك أن جانب الصنعة المفترض تواجده في العمل يختلف من حيث طبيعته، فضلا عن أن الجانب العلمي والبحثي يفترض تعاملا ينطلق من أسس وقواعد علمية منهجية، في حين أن العمل الإبداعي المفتوح ينعتق من تلك القيود وينفتح على تفاصيل وتحديات جديدة مختلفة تهم الأسلوب واللغة والتقنيات السردية والتخييل.
نص بوجهين
ومن هذا المنطلق، يعتبر بعض النقاد أن الكتابة الأدبية المشتركة تمثل نوعا من “الزيجات الأدبية” التي تتم إلا في إطار نمط معين من الكتابة، مثل “الأدب البوليسي” والرواية التاريخية باعتبارها كتابة ذات ضوابط ومقيدة نسبيا.
فالكتابة المشتركة -خاصة الإبداعية- تبقى ثمرة تلاقح أفكاروتصورات مختلفة لإنتاج لوحة مبتكرة تعتمد مختلف الألوان بعيدا عن الأحادية، وتخرج الكاتب من انزوائه ووحدته إلى رحابة الآخر دون أن تمحو شخصيته وتصهره في بحر الآخر نفسه.
ويرى الكاتب السوري إياد جميل محفوظ أن الكتاب الذي يصدر من رحم تزاوج أدبي “حب يشع من طرفين يشبه كل منهما الآخر، وناجم عن تناغم فكري، وانسجام في الحالة الإنسانية”.
ويشير بذلك إلى كتاب “المستطرف الليلكي” الذي ألفه مع الكاتب خطيب بدلة، والذي يراه “تجربة صناعتها صعبة إلا أنها سهلة المنال، تجربة جعلتني أقف مبتسما بجوار قامة سامقة، كبيرة، ليس في البلاد السورية فحسب، بل في البلاد العربية كافة”.
ويذكر الأديب خطيب بدلة في المقابل أن فكرة الكتابة المشتركة مع صديقه إياد محفوظ لمعت في ذهنه حينما أرسل إليه بضع طرائف ليطلعه عليها، ولم يكن مبدأ التأليف المشترك بينهما يعتمد على مبدأ “تجميع النصوص في كتاب واحد”، بل على مبدأ التفاعل، ليبدو الكتاب وكأنهما قد ألفاه معا منذ البداية.
ويشير بدلة إلى أن الشيء الإيجابي الذي حققاه -إياد وهو- من كتاب “المستطرف الليلكي” هو أن الذين قرؤوه لم يدخلوا في باب المقارنة، يعني طرائف إياد أحسن أو طرائف خطيب أحسن، ويعتبر أن ذلك كان نتيجة للطريقة التفاعلية التي حدثت بينهما.
رنين خاص
ولعل تجربة الكاتبين عبد اللطيف الحسيني وغسان جانكير “في رثاء عامودا” تختلف عن سابقتها -محفوظ وبدلة- بأنها تنبش في تفاصيل المدينة وعاداتها وتقاليدها وتبدو أقرب إلى المسح الاجتماعي من جهة الوقوف على متغيرات المدينة بين الأمس واليوم، ويأتي سردهما مشحونا بالأسى على راهن المدينة وحالها البائسة.
ويرى الحسيني أن الكتابة المشتركة ذات رنين خاص وسؤال مستفز، وهو كيف يمكن دمج أسلوبين وفكرين في شخصين سيصبحان واحدا بعد الانتهاء من المقال المشترك أو الكتاب المشترك؟
ويجزم الحسيني بأنه لا يمكن كتابة مقال لو لم يكن الكاتبان يتمتعان بهمّ مشترك وفكر واحد. وبالنسبة لحالتهما، يرى أن همهما كان هم مدينة تموت وفكر يفكك المدينة “ثقافة وسياسة وكل عادة راسخة أو مستحدثة”.
وفي حديثه عن الأسلوب ومدى التفاهم والتفاعل والانسجام بينه وبين شريكه، يرى أنهما كانا يستنطقان المدينة بعدما سكتت أو تم إسكات صوتها، ويستدرجانها لتكون معهما طوال فترة الكتابة عنها، ومن ثم كل واحد منهما ينزوي في ركن ما بعد ما جمعا من تبادل الفكرة والمعلومة الواحدة لديهما، ليكتبا ويجمعا ما كتباه لاحقا، ويوحدا الرؤية والأسلوب.
وكأن الكتاب المشترك يأتي ضد التهميش الذي تعرض ويتعرض له الكاتبان في بلدهما، إذ يرد جانكير قوة الكتاب ورصانته معا إلى النقاشات المستفيضة بينه كصحفي وبين الحسيني كشاعر، كي لا تحتمل التأويل في زمن –عبثا– حاول المنافقون نشر ثقافة يختزلها المثل العربي “إِذا دخلت قرية فاحلف بإلهها”، كما يقول.
ورغم تفرد تجربة جبرا ومنيف الإبداعية المشتركة في كتابة عالم “عمورية” والاختلاف حول مفهوم الإبداع كبصمة ذاتية بالأساس تحمل رؤية الكاتب لحركة الكون والحياة والتاريخ، فإن التجارب الجديدة تأتي في سياقات التجريبية وتطوير المدونة السردية.
___
*(الجزيرة)

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *