مبدعان يتواجهان في كتاب


*رشيد اركيله

يبدو أنّ الكتابات التي تُصنّف ضمن خانة النقد المقارن تشهد اليوم حركة معرفيّة سريعة الخُطى فرضتها تغيّرات عالمية كبرى طالت كلّ منجزات البشريّة وشملت جميع جغرافياتها. فالحاجة إلى معرفة نصوص الآخر، وتعريفه بنصوصنا، ومعرفة تأثّراته الممكنة بنا ومدى تأثّرنا به، كلّها أمور تُجسّر فعل التثاقف بين الشعوب، وتنتج معارف مضافة إلى تلك النصوص. وفي هذا الشأن، يتنزّل كتاب “بروست في مواجهة كوكتو” للكاتب كلود آرنو، حيث ينهض على تسليط الضوء على سيرتين،حياتيتيْن وأدبيتيْن، لاثنين من أشهر الكتّاب العالميين.

سلك الكاتب في المقارنة بين سيرتيْ كوكتو بروست، وكذا بين أدبيْهما، منهجية لا تدّعي الصرامة البحثيّة قدرَ سعيها إلى بناء خطاب مقارنيّ لا يُهمل التفاصيل، ولا يخشى المسكوت عنه فيها، بل هي منهجية تتبع الترتيب الكرونولوجي من أجل إعادة رسم هذين المصيرين مع الوقوف عند اللحظات التي يتقابلان فيها، أو يتصادمان في إطار نزوع إلى الوقوف على المؤتلف بين هذيْن المبدعيْن، وعلى المختلف عندهما في الكتابة والحياة.
كاتبان متوازيان
ما يقارب العشرين سنة هي المدة التي تفصل بين مولد كوكتو ومولد بروست، فقد وُلد جون كوكتو في 1889، في حين ولد مارسيل بروست في 1871. وهو فارق عمري من شأنه أن يباعد بينهما تجربة وإبداعا، غير أنّ الحقيقة هي أنّهما كانا بمثابة أخويْن وغريمَين في الوقت نفسه على حدّ ما يقول المؤلّف.وفي هذا الشأن، يرى آرنوأن الأدباء، حتى المنعزلين منهم أو المنفردين، يعيشون دائما مع الآخرين أو ضدهم، وهو الشيء الذي يفرض أخذه بعين الاعتبار في كلّ مقاربة لمنجزاتهم الإبداعية، رغم أن العلاقات بين الكتاب والفنانين تكون دائما معقدة ومشوقة ومليئة بالمسكوت عنه، وهذا ما ينطبق على نوعية التواصل بينكوكتو وبروست، فهما شخصيتان غنيتان وعسيرتا الإدراك.
فمن جهة الجذور العائلية، ينحدر كوكتو وبروست من البورجوازية المثقفة وتربطهما علاقة مميزة، بل فريدة، مع والدتيهما. إلاّ أن بروست يتمتع بحس أكثر واقعية من كوكتو. كما يُظهر آرنو أن لهما قواسم مشتركة من حيث بعض عناصر الشخصية، غير أنهما سيستعملانها بشكل مختلف. فبروست يوظف إحساسه المرهف ويستكشف خبايا النفس في حين يفضل كوكتوالعالم الخرافي ويوظف خياله.
كان بروست يبحث عن الدقة لينتج عملا، أما كوكتو فهو خيالي ومستعجل ويختلي بالأفيون ليؤسس كونه الخارج عن المألوف، في حين يبدوبروست، متأنيا، يختلي وهو يحفر أسس كاتدرائيته قبل أن يرفعها. لكنها ينجذبان لبعضهما البعض، على الأقلفيتقاسمهمالنفس الميول الجنسية.
لايقف التوازي عند هذا الحد، فالكاتبان يرتادان الصالونات نفسها، وكوكتو هو انعكاس لـبروست في العشرين، بخلاف كوكتو اللامع والمعترف به مسبقا ككاتب. وفي الوقت الذي يتم الحديث عن بروست كمارسيل الصغير، أديب محب للحياة الاجتماعية. فإنّ آنا دو نوواي، التي كانت تعدّ آنذاك صحيفة لوبينيون، تمدح الأصغر الذي يسمح لنفسه بمعاملتها بوقاحة، على حساب الأكبر الذي لم يكن بعد قد نشر “على ناحية منزل صْوان”، رغم فارق الثمانية عشرة سنة. إذن تَقدم كوكتو يجعل منه معاصرا لبروست.
استفزازات إبداعية
يؤكد كلود آرنو أن صداقة هذيْن الكاتبيْن، التي كان بالإمكان أن تكون أكثر حميمية، مبنية على تنافس شديد بينهما. في البداية، الأكبر يفتن الأصغر، «فتنة لذكاء حاد» التي ستُسفِر عن ولادة نصوص موجزة، بالتأكيد، لكنها متألقة. الأصغر، المدعو لسماع مقاطع من “البحث” المستقبلي، سيمتعض من تلك الجمل الثقيلة، الطويلة التي تتناثر في تلك التراتيل الشهيرة.
مع ذلك، سيكون كوكتو من القلائل الذين ساندوا البدايات المثمرة لـ”البحث” في 1913 بعدما كان أحد الشاهدين المفضلين لذلك العمل الذي كان يراه مسليا، الشيء الذي استفز مارسيل بروست. بالإضافة إلى أن اختلاف الأسلوب ونمط عيشة الحياة والأدب يمنع كوكتو من ولوج عوالم بروست التي يراها متاهة كبيرة ومتشعبة، في المقابل، فقد صعب على بروست فهم العمل السريع والحديث لغريمه الأصغر.
يوضح كلود آرنوأن كوكتوسينتبه، شيئا فشيئا، إلى أن مارسيل الصغير يتفوق عليه وهذا ما يشعره في أعماقه بالحسرة، فقد راهن بروست على الزمن بشيء من التواضع. لقد بدأ بالتوليفة والنصوص الخفيفة ليأخذ وقته الكافي كي ينضج المنتوج الذي لربما كان يشعر به في أعماقه. لقد تعمد الاقتداء بأساتذته الكبار لكي يستطيع بعد ذلك التميز عنهم بشكل أفضل. أما كوكتو، فهو يعرف أحزان الكتاب المبكرين الذين حظوا بالدلال بشكل سريع جدا، حزن كان سيعرفه دون شك، راديكيه، لو طال عمره هو ذاته الحزن الذي عرفه موسيه في سن 18 سنة مع أول ديوان شِعر له والذي عرف فشلا بالمسرح، الاكتئاب والخجل أنقذا سنتين بعد ذلك، الحزن الذي أفلت منه ريمبوعندما أدار ظهره للشِّعر”.
فضلا عن هذا الإبكار، ينضاف لدى كوكتو ذلك الانجذاب نحو العوالم الفنية للآخرين وجانبه الملامس لكل المواهب. فهو كإسفنجة حقيقية يبحث عن نفسه في جميع الاتجاهات مع خيال قد يمكن اعتباره على سبيل الخطأ تفكيرا سطحيا.
من أجل كوكتو
يستحضر الكاتب حياة بروست وكوكتوالمتوازية ولكن أيضا انسلاخهما الذي جعلهما يتحولان من هاويين شعبويين إلى مبدعين. لكنه من جهة أخرى، يوضح جيدا أن كوكتو يحب الحياة، العالم الذي يحيط به، في علاقة مباشرة ومغذية، بدون عقدة، بخلاف بروست عند ولوجه عالم الأدب بشكل نهائي، سيستبدل أمر الحياة بفعل الكتابة، ويصف العالم وهو يبتعد عنه ليبتكره من جديد وإلى الأبد. في نهاية الأمر، كل واحد منهما يعكس عهده ولكن بشكل مختلف، بل قد تغدو صنعة الأول نقيضة صنعة الآخر. رغم أن عَنْوَان كتابه “بروست في مواجهة كوكتو”، إلا أن كلود آرنو كتب ذلك المؤلف من أجل كوكتو. إنه يقف موقف المدافع عن الكاتب. نوعا ما، تتمة لسيرته الذاتية التي صدرت في2003.
_______
*(العرب)

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *