المستحيل الثقافي العربي


*خليل قنديل

علينا أن نعترف بأننا بدأنا ندخل كحركة ثقافية عربية في «المستحيل الثقافي»، وهذا يعني ببساطة أننا بتنا بحاجة إلى حركة انقلابية معرفية في بنيتنا الثقافية، ذلك أن العصر الذي أدخلنا في ألفيته الثالثة دون تدقيق في ثبوتية أوراقنا الثقافية يبدو كأنه يعاود قراءة هذه الأوراق، ويعاود النظر في كل شيء!

وعلينا أن نعترف أيضاً بأن كل هذه الفواتير الدموية التي تدفعها بعض الشعوب العربية هي بالفعل فاتحة لمطر دموي، ولزلزال قادم فد يقوى على اقتلاع قناعات جمعية كنا نعتقد أنها قناعات راسخة.
وفي الدخول إلى المُعطى الثقافي العربي السائد ومحاورة التفاصيل، سنجد أن الشخصية العربية هي شخصية اتكائية بامتياز، وهي على هذا النحو المزمن لا تكلف نفسها عناء مراجعة مكتسباتها الثقافية، بل تظل تقف كحارس مرمى يتلقى الضربات الترجيحية حضارياً، ولهذا تجد أنه من الطبيعي أن يتم الوقوف بعدوانية تجاه القراءة والمطالعة وتغذية الرأس بالمعرفة، حتى إن القارئ الملتزم يعاني سخرية جماعية بسبب إصراره على القراءة، وأنا مازلت أذكر وقوفي الأعزل أمام مكتبتي المنزلية وأنا اواجه أسئلة من نوع «معقول انك قرأت كل هذه الكتب؟!».
ومن هنا يكون عليّ أن أُجيب باعتبار أني مُتهم!
والعربي يمكن أن يكون الكائن الوحيد الذي يعتمد على قواه التأملية الطاردة لأي اقتراح يأتي من خارجه، ولهذا تراه في حل من أي كتاب ومن أي مخطوط، والثقافة الأذنية أو الاستماعية هي من أهم ثقافات التلقي والتفاعل، وربما لهذا ظلت الثقافة الموسيقية العربية تقف عند تعبيرات مثل «الله عليك».
إن مثل هذه الثقافة الصوتية التي استفاد منها الغرب في الموسيقى والمسرح، حتى الموسيقى التصويرية، ظلت عندنا تقيم في منطقة مغايرة في الاستماع، ذاك الذي يعتمد على الإيقاع أولاً وأخيراً.
وعليه ليس من الغريب ان تكون قوة الاستماع عربياً تعتمد على سماكة الصوت في قوة الإقناع ورجاحة الفكرة، وكم من عاقل ظلم في فكرته، لا لشيء سوى أن صوته هادئ، ولا يمتلك تلك الحشرجة الرجولية في الصوت!
وأنا مازلت أذكر الرائعة السينمائية للمخرج المصري سعيد مرزوق، في فيلمه «زوجتي والكلب»، كيف نهض نصف الجمهور متأففاً، لأن الفيلم يعتمد على قوة الصورة وروعة المشاهد الصامتة.
ولهذا كان من الطبيعي جداً أن تتسيد سينما الضجة والتهريج في قاعاتنا السينمائية، ويتم محق كل الأفلام التي تتحدث صورها عن عمق المشهد ودلالاته.
طبعاً مثل هذا التفخيم الصوتي انعكس بشكل عفوي وتلقائي على المشارب الثقافية كافة، فصار من المستحيل الاستماع إلى مقطوعة موسيقية لا تتكفل بترويجها الأرجل والأيدي، ذلك أن لحظة التجلي الموسيقي تحتاج بالضرورة إلى «زحجة» و«الزحجة» تحتاج إلى دبكة وتصفيق، ولهذا فإن الموسيقى التي لا تنهض العربي من مقعده ليست موسيقى، ولهذا كان من الطبيعي ألا تشعر بغياب السيمفونية عن الموسيقى العربية.
أما عن بخلنا في ثقافة المشهد وتغذية العين بصرياً وقدرتها على الامتزاج باللون وتشكيلاته المدهشة، فهذا من المستحيلات المشهدية، هذا عداك عن العماء البصري في اليافطات التي تتوزع في غير عاصمة عربية، وهي تتداخل وتتشابك بخطوط اقل ما يقال عنها إنها مطلسمة!
حقيقة، بتنا بحاجة جدية لمراجعة كل المعطيات الثقافية، لا لشيء سوى أننا خسرنا العديد من رموزنا الفنية والثقافية في كل المشارب الثقافية، كما خسرنا العديد من المواهب التي كان من الممكن أن تغذي وعينا الجمالي والثقافي، لكننا آثرنا الإقامة في منطقة المستحيل، وأي مستحيل؟!
_______
*الإمارات اليوم

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *