الحرب كلمة سوداء


*مازن المعموري

تتنفس الكلمات وعي الشاعر وهو يشرع بإنشاء مرموزاته الحية، إذ يشير المفكر ادموند هوسرل إلى أن ” الادراكات والتوهمات والتصورات المتخيلة وأفاعيل التفكير الأفهومي والافتراضات والشكوك والمسرات والآلام والآمال والمخاوف والرغبات والإرادات ..الخ، تكون ما أن تظهر في وعينا، معيشات أو مضامين وعييّة “وهذه تستدعي بالضرورة قصدية الوعي بشيء ما، لذا يشكل الوعي مفهوما تجريديا حائزا على تميز الهوية الذاتانية، بمعنى أن الشخص “حاضر في العالم ” وأن وصف حالة الوعي تحرك تمثلات رمزية، أفكارا وصورا عقلية مقاربة بالوعي، , ومع ذلك فإن التفكر لا يعني التفكر لذاته، ذلك أن فعل التفكر لذاته ومراقبة الافكار الخاصة عقليا، انما يطال نمطا اخر من الوعي يطلق عليه الوعي التاملي او الوعي العقلي الذاتي على حد تعبير تولفينغ (هوسرل / مباحث منطقية ), إذ ينطوي على التعرف الى الذات، والشعور بالهوية والاسم والتاريخ وأسباب وجوده هنا في مقابل الهناك، أي أن الوعي يبقى مهيمنا على صورة الجسد حتى في تحولاته الشكلانية والبنيوية، ويبقى محتفضا بادراكه لحركة الزمان والحدث.

تحت هذا المنعطف الفلسفي نستطيع أن نتابع سرديات وعي الشاعر لمأساة الحرب وقد تحولت إلى أم رؤوم، فأي واقع يمكن تصوره مع ثلاثين سنة من الحرب التي أصبحت جزءاً من سلوكيات حياتنا اليومية؟ ففي نص ( الحرب في طبعتها الاخيرة ) للشاعر صفاء ذياب نشاهد هذه التركيبة الغريبة من الجنون واللامنطق (لم تتركني هذه الحرب لحظة واحدة/ رافقتني لثلاثين عاما كأم حنون/ تدفئني في الليل بنيرانها/ وفي الصباح تمسد شعري ببساطيل الجنود/ وحينما اتعب من كل هذي السعادة/ تفاجئني بقنابل توقظ البساتين/ وترد الرسائل مدموغة بالسواد..).
نجد أن صفاء ذياب في هذا النص يستدعي نظرية فرويد التي تعد الموت والتدمير أحد غرائز الانسان الجوهرية التي تساهم في حركة التاريخ، ومنها الحرب التي تحولت لدى الشاعر إلى أم .. ويا لها من مفارقة معرفية تلك التي تجعل من القاتل رمزا للولادة، لكن هذا التشريح الذرائعي لوجهي الحياة والموت يقدم لنا نسقا تعريفيا جديدا يضع النقائض في شكل العدم القديم للالهة العراقية التي انبثقت من الأم الأولى وثارت على نظامها الساكن، فالحرب تدمير للراكد والميت، لكن الشاعر هنا يسبغ على وجه الحرب قناعا ليس لها، أو أنه يحاول ذوتنة الغائب الذي يشير إلى ما خلف الصورة .
الحرب في وجهها القبيح تخبرنا عن وسائلها لانتاج نقيض عدمي من طراز خاص، تتداعى لديه الحقائق كما لو انها تعني غير ما تقول، وهي بهذا تسجل خصائصها البنيوية في تشويه الحياة .. تضع علامة فارقة لكل من يدخل غوايتها الشيطانية فهي (تعطي الجنود موتا يليق بالبنادق / والقاعدين مستقبلا من الكراسي الخشب) ولنا ان نتصور كم هي حنون تلك الام التي لا تبقي من الشخوص سوى الاثر.
يبدو التعامل مع النقائض قد أصبح دالا لوحده يشير إلى حركة الزمن .. ذلك الاستمرار الطويل للحرب قادنا إلى الألفة مع الموت، بل نستطيع أن نبتكر مبررات الحرب طالما هي واقعة في الزمان الممتد معنا، ولا يمكن التخلي عن فداحة ما يحدث دون أن يكون السلام غير مقنع هو الآخر دون حرب قادمة تكرر دوالها بقناع مختلف كما هي عند فرويد ولورنتس اللذان يعتبرانها غريزة يغذيها ينبوع طاقة دائم التدفق، وليس بالضرورة نتيجة استجابة لمثيرات خارجية، لكن الحقيقة هي أن النص يمثل تلك الديمومة التي انسلت في جوهرها الحرب، وغدت سؤالا عن الهوية داخل النص، أو ما يمكن أن نطلق عليه (الهو المطابق) بلغة الفلسفة التي غالبا ما تقترح مساحة جديدة للتعرف على الذات بصيغة المفكر به، والحرب هنا .. أصبحت شيئا يمكن ملاحظته ككائن يتعايش ويمارس وجوده العياني مع الواقع.
النص يحمل محورين هما (أنا الشاعر + الحرب) وإذا تركنا توصيف الشاعر للحرب بصفتها (أمّا) فان علاقة كل من الاثنين تبرر الخديعة التي يمارسها النص، لأنها (الآخر) الذي ينطوي على إجراءات نفي المقول الأول، والمشكلة تكمن في محنة الاختلاف في تعدد الذوات، بدأ بالشاعر والنص والآخر الذي تمثله الحرب، لكن اللغة الواصفة للحدث تبقي كلا الاثنين في حوار دائم مع متناقضات الحقيقة واكاذيب القول الشعري في سياقه الوصفي، ولا بد من التفريق بين مظاهر الحرب بابعادها السيكلوجية التي تنتاب الخطاب، والخواص الخارجية لسماتها الدالة مثل الأدوات والخراب وغيرها.
الحرب بلسان شخص ثالث تكشف عن بعدها الاجتماسياسي (لدي ملايين اليتامى/ وأطراف لا تحصى/ فتحت سوقا لبيع الايدي والأرجل والأصابع/ وفي خزانتي آلاف الرؤوس/ وعلى أطراف الساحات/ يتجول رجال يبحثون عن أطرافهم الضائعة/ لقد سرقتها الحرب وأهدتهم مهنا لا يتقنها احد/ إنها الحرب/ لم تترك مجالا للعاطلين) مرة بلسان الحرب ككائن ومرة بتاويل ما يتبقى منها، وما يتبقى من المجتمع الذي احتضنته ورضعته من ثدي قبيح لا يتوائم الا مع أفول العقل البشري، وفي واحدة من اكثر انعكاسات الصراع العالمي في منطقة الشرق الاوسط، حيث وجد الوعي تابوته محمولا على عربة من العصاب الهستيري ومطرزا بتكشيرة جماجم حمر.
يخبرنا النص عن شبح الحقيقة الذي يقبع داخل كل واحد منا، ولنا أن نمارس مظاهره في الشارع والعمل والعائلة، وله ان يشبع غرورنا البدائي بتصنيم ذوات عاطلة عن الحياة ,وربما كان ذلك علة جلد الذات التي احتفى بها النص بطريقة تعبر عن نكوص نفسي حاد، يتوارى خلفه الكثير من المسوخ في حياتنا اليومية، ولك ان تشاهد اكثر مما قاله النص حين تلتفت الى الخارج لتشاهد واقعا ليس هو ذاته بل ذاتك انت وقد شاخت وانفصلت عن الاصل لترى ما لا تراه، وهو ما اراده لنا فعل القراءة لحظة التطابق مع ظلال الوعي المتعالي وتراكم المشاهد الحسية التي قد تكون مألوفة على مستوى الحدث، لكنها تعبق بالنشازات على مستوى التمثيل العقلي للقيم، وانهيار صورة الاصل في واحدة من أكثر النصوص احتفالا بالقبح وترشيحا لعصر كان وما زال يخرج من باحة الحرب باسم ملوث بالشظايا ومعوق وجوديا، لدرجة أنه غير عابئ بترتيب أوراقه من جديد والبحث عن فسحة أمل طال انتظارها.
_______
*( العالم)

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *