عاطف الفرّاية يزيح ستارة نصّه الأخير


*محمد جميل خضر

على مهل، ظل الشاعر عاطف الفراية الذي ودعنا مساء الأربعاء 18/9/2013 إلى غير عودة، يطوّر نصه الإبداعي الممزوج بعرق الرجال الطالعين من حقول الجنوب.. 

على مهل، وبقليل من حنطة الأرض وكثير من الحب والغوص المجنّح في البيادر والبوايك والكروم، واصل المولود في العام 1964 في وهاد الكرك، تقليم زوائد نصّه، وتخليصه من أحمال القولبة المحنطة داخل حدود العامود، ومن جاهزية الصورة المقنعة، ومن حِجْر الظلام على مرافئ النور، ومن انتكاسات التبعية في صعيديها: المبنى والمعنى، لصالح تمرد فطري مجبول بعفوية الجنوب وأصالته وشموخه الممتد.
ربما لم تكن آخر أمنياته أن يتقدم الرحيل على موعد القطاف.. وربما لم يكن يريد لقصيدته الأخيرة أن تنتهي بذبحة مدوية عند تخوم الكلام المنهمر من دالية حروفه على اتساعها شعراً وكتابة مسرحية.. فمن أين يأتي القرار؟ وكيف تحمي الشرعة نفسها من علامات السؤال المفجوع؟ 
هذه، إذاً، «حنجرة غير مستعارة»، تتقدم الصفوف، من أول لثام وقف عند أبواب قلعة الكرك، وحتى خرج الناس خفافاً يوم الطلاب الأكيد.. تعلن انحيازها النهائي للناس الغلابا.. للمقهورين بجرائر العولمة الجائرة.. للندى عند أبواب الدار في العليّة.. للشمس حين لا تخجل من وهج النهار الصاخب بالعمل والأمل والوعود الجميلة.. 
وحين يغادر الجنوبي مراتع الصبا نحو لجة المدينة الغامضة.. وحين يغادر بعد ذلك، كل حدود الوطن نحو لقمة العيش المسبوكة بالغربة والصبر والصلاة، ويقيم ما أقام عسيب في محطة الخليج الضرورية من أجل أَوَدِ البقاء ومستلزمات الحياة الدنيا، فإن الارتباك سيكون ديدنه، وحجل التعثر والتلعثم والخبب البريء.. فيقف عند حدود الرغبة المشتهاة، ويقرر أن مشوار العمر لا يستقيم من دون الحبيبة التي أصبحت زوجة، من دون بعض فلسطين..
ويواصل مشواريْه: مشوار الإبداع بنصوص عميقة الطزاجة، ومشوار العمل الذي بدأه في شركة البوتاس ونقله إلى بلاد لعلها أكثر ملوحة من ملوحة البحر الميت:
«أنا يا صديقة من طلْح هذي الصحارى
ومن ملح هذي البلاد
ومن صمت كل الجياع
فحين تزاوَجَ دمع الندى
بالأقاح الحزين
ومالت سنابل أرضي حُبلى..
وعند امتزاج دموع الثكالى
بريش الطيور التي سرق
الخائنون فضاءاتها..
أفرز القمح نطفة بؤس
رماها على رحم بيدر هذا الضياع
فألقت بها الذاريات على جبل الملح
فامتزج الجوع بالحزن
حتى غدت مضغةً..
ثم عظماً.
ولم ينبت اللحم بين نيوب السباع.
وغطى الزمان العظام من العري بالرمل
حتى ولدتُ ككل الرعاع.
كبرت على صمت هذي الصحارى
شربت عصارة حنظل أرض الحيارى
فأفرز طعم المرار بحنجرتي لحنها
توالت عليَّ الحناجرُ..
لكنني…
رغم هذا المرار
زجرت الحناجر عني
وصرت أغني
وما كنت صوتاً لغيري
وما كنت يوماً صدى مستعاراً».
هنا في قصيدته «حنجرة غير مستعارة» التي تحمل مجموعته الأولى (1993) اسمها، يسمي الفراية الأشياء بأسمائها؛ الخائنين بسرقاتهم، الملح بطعمه الباقي، الصوت بصداه، بأنفته، باستقلال إرادة صاحبه، الحنظل بمرارته الطالعة من سقوف القرى النائمة عند تخوم الغضب.
منذ مجموعته الأولى، مروراً بإنجازاته: فوزه العام 2000 بجائزة الشارقة للإبداع العربي عن مسرحيته «كوكب الوهم» التي أصدرتها دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة في كتاب، فوزه العام 2002 بجائزة جمعية المسرحيين بالإمارات للتأليف المسرحي عن مسرحيته «أشباه وطاولة»، كتاب يحمل عنوان «السقف» يضم ثلاث مسرحيات له من إصدار وزارة الثقافة في العام 2007، فوزه في العام 2007 بجائزة ناجي نعمان العالمية، وصولاً إلى فوزه أخيراً بالجائزة الأولى في مسابقة الفجيرة الدولية لنصوص المونودراما عن نصه «البحث عن عزيزة سليمان» التي رحل قبل أن يتسلمها.. ثمة كوميديا سوداء، أو تراجيديا مضحكة تحاول أن تزحزح مكاناً لها في مسيرة الفتى الجنوبي.. وسط تجلي ثنائية الموت والحياة، الفرح والحزن، الأبيض والأسود، بشكل صادم قدريّ لا لبس فيه. 
وفي سياق الجدليات التي يشتق المبدعون والباحثون مشروعيةَ كثيرٍ من كتاباتهم حولها، فإن لعاطف حصة غير قليلة فيها، وله منها قصب السبق (متبندلاً) بين السقاية والاحبتاس، بين الرفد والخفوت، بين التوهج والتردد، بين الصمت والكلام، بين الشعر والنثر، بين الإصرار على غدٍ مهما حمل هذا الغد من صواعق وفجائع، وبين الانكفاء كما هو شأن «عزيزة سليمان» بطلة نصّه المسرحي الفائز، ومغادرتها منصة الحياة بعد وصولها خريف الممكنات الصاخبة. 
وفي الأحوال المختلفة، شكّل الملح، بما هو معنى، وبما هو فعل تقارب، وبما هو صدمة واقع معاش، وبما هو قدر العربي وأحد أسباب ارتفاع ضغطه، علامة ما في مسيرة الفراية، فأنشده وأقام معه حوارية لها ما لها من تداعيات: 
«لإيلافك الرمل…
رملك سجادة للصلاة
وحَرُّ هوائك برد سلام
وموتك يستأنس الغور منه حياة الأبد.
فها أنت ميْت…
ولكنك السرمدي المدد
غريب ولست ككل البحار
فلا (الهيلا هيلا)
ولا مركب الصائدين
ولا شاطئ يحضن الزائرين
هو الملح يصطاد كل الجياع
وملحك في زمن الحَرِّ ثلج جمد
هو البحر ميْت…
وفي الغور يُتْمٌ طويل الأمد».
هو الملح إذاً، الذي ينبغي أن يتوب عنه الشاعر المتمرد:
«أستغفر الملح إذ لست أدري
بأي نعيم كفرتُ إذا قلت إنك ميت..
فمن لي سواك ليحضن جرحي؟
ومن لي سواك..
ليشفي دمامل وجهي؟
ولكن دملة القلب أكبر
لو كنت تدري
فمن يبرئ الجرح يا أيها البحر
إن الطبيب قتل
وليس الجراح سواء
لأن جراح الأحبة في الظهر
لا تندمل».
لكن صوت الشامت يأبى إلا أن يحجز له مكاناً في «حوارية الملح» تلك:
«أنت حزين عليَّ فما
كنت حُرَّاً بموتي…
ولست حزيناً عليك
لأنك حُرٌّ بموتك..
حُرٌّ بخوفك
حُرٌّ.. وتخفي أنينك خلف الشفاه
وتركب بالصمت في غصة
الحلق طوق النجاة
وتلهث خلف الندى
حين تلمس في النبع خوف المياه
حُرٌّ…
ولا تقتفي أثراً للجراد
إذا سُرِقَ، القمح منك وأنت تراه
وحُرٌّ بِعُرْيِكَ…
إن يرتَد الذئب جلد الشياه
تفرُّ إليَّ لتلبس رملي
يحاصرك الخوف
ترفع كفَّيْكَ نحو الإله..
وتمضي تمارس لا شيء
لا شيء… لا شيء
غير الصلاة».
وحين تراكضَ خبرُ رحيل عاطف الفراية من موقع إلى آخر، ومن صفحة من صفحات التواصل الاجتماعي إلى أخرى.. تسابق الأصحاب والكتّاب والأهل والشعراء للتعبير عن فجيعتهم بالخبر: زهير أبو شايب، باسل رفايعة، حكمت النوايسة، سعد الدين شاهين، التشكيلي المقيم في الإمارات صلاح شاهين، طارق مكاوي، يحيى القيسي، زهير زقطان، عطالله الحجايا، زهرية الصعوب، عودة الجعافرة، عبد الله أبو بكر، علاء أبو عواد، غنام غنام، علي عليان، أحمد النعيمي، محمد سناجلة، هشام عودة، سهير سلطي التل، حيدر البستنجي، فتحي الضمور، عيد النسور، امتنان الصمادي.. جميعهم.. وغيرهم.. وغيرهم.. رثوا بالحيرة والفجيعة والرفض والذهول صاحب «أنثى الفواكه الغامضة».. صديق عمّان.. وصعلوك جبل اللويبدة.. الشاعر الذي أبى إلا أن يكون ثالث من يغادرون عند أبواب التاسعة والأربعين.. بعد عرار وبعد حبيب الزيودي.. فهل هل عصية إلى كل هذا الحد عتبة الخمسين على طفولة الشعر وعلى نزوات فرسانه العابثين؟ كلهم تداولوا ترجّله يملأ فمهم سؤال الناقد زياد أبو لبن: «إلى متى يا موت تغتال أَحِبَّاءنا؟».
________
*(الرأي)

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *