بين سلطة الصورة وسموَ الكلمة


فاطمة نصير *

(ثقافات)

قراءة رواية واحدة تعادل مشاهدة عشرة أفلام وأكثر ، أقول هذا الكلام في زمن هيمنت فيه السينما العربية والغربية ، وصار للصورة سلطة على جمع غفير من المتلقين على مستوى كافة الفئات الاجتماعية بمختلف مستوياتها التعليمية .
لكن تظل الرواية بلغتها بسردها بحبكتها أفضل بكثير من متابعة فلم ، ففي الوقت الذي تمنحك فيه الرواية رصيدا لغوياً جديدا وتفتق خيالك ، يسحب منك الفلم كل هذه المزايا ، فتكون متلقياً سلبياً ليس له حق المشاركة في بناء صورة الشخصيات والأمكنة ، فكل القوالب جاهزة ، صورة الممثلين ، الأمكنة ، الطرقات ، الحركات ، السكنات، …الخ ، في المقابل نجد الرواية كنص لغوي / لساني ، تشحذ ذهن القارئ وتحرك الذاكرة وتنمي الخيال ، وتضيف للقارئ / المتلقي رصيدا لغوياً ، كل ذلك عن طريق الصياغة والطرح الذي يقدمه الروائي بالإضافة أصوات الشخصيات داخل المحكي السردي .

ليس بالإمكان إنكار سلطة الصورة في عصرنا الحالي ، أو التقليل من أهميتها ، لكن يبقى للحرف وللكلمة سموهما وقداستها .
إن المتتبع لتاريخ الشعوب والحضارات يلاحظ أن الرسم والصورة أسبق في الظهور من الكتابة ، فقد كان الإنسان البدائي يخط على الحجر ليعبر عن مواقف مرت به ، كان الرسم أسلوبا من أساليب التوثيق والتعبير لكن مع تطور العصور ظهرت الكتابة في ظروف معينة (جمع التراث وتوثيقه) ، وفي المقابل ظل الرسم في تطور بطيء ، حتى تبلور في مدارس وصار يدرس أكاديميا ، كالمدرسة الكلاسيكية ، الرومانسية ، الرمزية ، السوريالية ، التكعيبية …الخ ، ثم تطور شيئا فشيئا من الأبيض والأسود إلى الألوان الجميلة والزاهية ، ومن الرسم / الصورة والتمثيل المسرحي قديما ، ابتعدت فكرة التمثيل السينمائي فصارت الصورة متحركة ناطقة ساردة ، آسرة للناظر المتلقي مستعبدة فكره بتقديم القوالب الجاهزة فلا مجال للخيال في تركيب صور وحركات للشخصيات كما هو الحال في فعل القراءة (قراءة الرواية مثلا ) ، الشيء الوحيد الذي يفكر فيه المشاهد / المتلقي هو تطور الأحداث والتفكير في النهاية أكثر من تتبع تطور الأحداث .

لكل عصر أدواته التعبيرية ، والصورة في عصرنا الحالي أقوى الأساليب التعبيرية، حيث أنها غزت كل مجالات الحياة اليومية ، فهي وسيلة للتسويق والإشهار ووسيلة تعليمية ناجحة (شاشات العرض) ، ووسيلة لنقل الخبر والحدث حيا من عين المكان (نشرات الأخبار والمسابقات ودورات الألعاب الرياضية ) ، ووسيلة ترفيهية (أفلام الكرتون للصغار والأفلام والمسلسلات للكبار) ووسيلة تثقيفية ( الحوارات والمساءلات والأفلام الوثائقية ) … وغيرها .
لكن يبقى للكلمة المكتوبة وقع وتأثير إيجابي في المتلقي / القارئ ، فهي بقدر ما تأخذ منه وقت للتمعن والقراءة بقدر ما تثريه معرفياً ولغوياً ، فكل نص روائي جميل يترك في النفس وفي الذاكرة آثارا تتضح في ثنايا كلام القارئ الفعلي فتجد أسلوبه في الطرح والكلام مزوَد بتعابير تلقائية مستوحاة ممَا يقرأه تأتيه منساقة بدون تكلف في الكلام أو ضغط على الذاكرة بغية الاسترجاع ، ليس إيمانا واعتقادا بالأفكار التي يقرأها ، بل تنويع في الصياغة التي تخرج الخطاب من النمطية ، وتسوقه نحو آفاق جديدة في استخدام اللغة والأنماط التعبيرية . 
___________
* : باحثة أكاديمية(أستاذة جامعية) من الجزائر

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *