لنتحدث عن الأدب وأشياء أخرى


عائشة سلطان *


من أجمل وأكثر كتب جابرييل جارسيا ماركيز التي يمكنك أن تطالعها بمنتهى المتعة والشغف، كتابه “كيف تكتب رواية، ومقالات أخرى”، والذي ترجمه الرائع صالح علماني، وكعادته فقد أضفى روحه الإبداعية شديدة الأمانة على نص العبقري ماركيز فظهر كتاب لم أقرأ مثيلاً له هذا الصيف أو أي صيف مضى قضيته خارج البلاد، حيث كان أول ما وضعته في حقيبة السفر، ذاك الكتاب الذي ظننت أنني لن أتمكن من إتمام قراءته بسبب انشغالات الإجازة، لكنه كان يضاهي جمال المكان الذي كنت فيه، بل ويفوقه أحياناًَ.
كانت عفوية ماركيز وعبقريته في الحكي طاغية ومسيطرة، وكنت أمام كل معلومة أو حكاية أقرأها أتوقف لأهتف: “الله.. كم كنت عبقرياً يا ماركيز، وكم أن عقلاً مبدعك كعقلك ما كان له أن ينتهي إلا بما انتهيت له، وإلا فكيف كان بإمكانك احتمال هذا التدفق المرعب والإبداع اللانهائي؟”.
في الصفحات الأولى، تقرأ له هذا العنوان “لنتحدث عن الأدب”، حيث يروي تفاصيل مقابلة صحفية استمرت لأربع ساعات متواصلة كان قد أجراها معه المحرر الأدبي لمجلة “تايم” رون شيبرد، وكان يومها يعد دراسة حول أدب أميركا اللاتينية.
كان ماركيز يذكر هذه المقابلة على الدوام برضا تام، وكان سبب رضاه يعود لأمرين، الأول هو أن شيبرد وطوال المقابلة لم يتحدث ولم يجعل ماركيز يتحدث سوى عن الأدب دون حذلقة أو ادعاء، والأمر الثاني هو أن المحرر كان قد قرأ جميع كتب ماركيز بتسلسلها الزمني، كما تجشم عناء قراءة مجموعة مقابلات أجريت مع الأديب الكبير لا لشيء إلا ليتجنب الوقوع في تكرار الأسئلة، التي غالباً ما ينفر منها رجل في وزن ماركيز.
عندما قرأت هذه التفصيلة تحديداً تذكرت مئات المقابلات الصحفية التي قرأتها لصحفيين مختلفين ولأدباء وفنانين وشخصيات سياسية، وكمية التكرار الذي يقع فيه صحفيونا ومحررونا بشكل عام حين يجرون مقابلاتهم. كما تذكرت زملاء كثر لطالما أجلوا وماطلوا في إجراء الحوارات الصحفية لسبب وحيد يعود إلى نوعية الأسئلة التي يرسلها لهم الصحفيون.
أغلب تلك الأسئلة معاد ومكرر وممل، وبعضها شديد الفذلكة، من نوعية “كيف تنظر إلى انشطار ذات الأديب في تلافيف النص الذي يبتكره بعيداً عن إرهاصات واقعه المأزوم؟. هناك من يستعين بأحدهم كي يؤلف له “توليفة” أسئلة ليبدو أنه فيلسوف ومثقف ليتسق مع مستوى ثقافة الذي يحاوره فيقع في شر أسئلته. 
كيف تكتب روايتك؟ أو كيف تكتب مقالك؟ مع الفارق الكبير بين مستوى الإبداعين والجهدين، إلا أنه من أكثر الأسئلة التي تطرح على أي كاتب في كل الدنيا، ولا يدري المحرر الذي يسأل هذا السؤال أنه حتى الروائي أو الكاتب نفسه لا يملك إجابة عن هذا السؤال، تماماً كما قال ماركيز في كتابه “المسألة ليست في أن تكتب قصة أو روية- أو حتى مقال- ولكن في أن تكتب بجدية، مفكراً في الكتابة أولاً، وليس في النجاح والفشل والشهرة أو المال، كما يفعل كل كتاب هذا الزمن من الشباب، حسب عبارة ماركيز.
العبقرية هنا أن ماركيز يكتب منذ سنوات طويلة كتاباً تشعر وأنت تقرؤه أنه مكتوب منذ خمسة أيام لهذا الزمن الذي يصفه هو بأنه ولد تحت “برج التفاهة والكوكاكولا”. الكتاب رائع بجدارة.
* كاتبة من الإمارات
( الاتحاد )

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *