عنف الديكتاتورية


*فاضل السلطاني

كانت هجرة الكتاب الألمان بعد صعود النازية في ثلاثينات القرن الماضي أكبر هجرة ثقافية في ذلك القرن، لكن في تلك الفترة أنتج هؤلاء الكتاب أدبا هو من أكثر الآداب الإنسانية أهمية ليومنا هذا: برتولد بريشت، توماس مان، كلاوس مان، روبرت موسيل، ستيفان زفايج، وعشرات آخرون. وللأسف، لم يصلنا من هذا النتاج سوى القليل، مقارنة حتى بالأدب الكلاسيكي الألماني نفسه. لقد ترجم إلى العربية كثير من مسرحيات بريشت، وبعض روايات توماس مان وزفايغ، وما عدا ذلك لا نكاد نعرف شيئا عن تجربة الأدب الألماني في المنفى، وفي الداخل أيضا قبل تلك الهجرة الكبيرة، وخاصة النتاج الفكري الذي تناول ظاهرة النازية، وصعودها، وأساليبها القمعية الممنهجة، والظروف الداخلية التي ساعدت على نشوئها، ومنها «غفلة» الجماهير التي لا تغتفر. فهتلر، كما هو معروف، قد انتخب ديمقراطيا، ولم يأت على ظهر دبابة. ولكن من أين تأتي غفلة الجماهير هذه؟

في «الخنوع» يفكك توماس مان روائيا الآليات التي تؤدي إلى هذه الغفلة، وأولها استلاب عقل ووجدان الجماهير عبر التضليل والكذب، وإن لم ينفع ذلك عبر القوة، حتى يستبطن الناس الخضوع، ويسكن في لاوعيهم مع مرور الزمن. لكن معاصره وصديقه ستيفان زفايغ يحلل هذا الخنوع فكريا في كتابه «كاستيلو ضد كالفن، أو ضمير ضد العنف»، الذي كتبه بعد ثلاث سنوات من استلام النازيين الحكم عام 1933. لكن هذا الكتاب الرائد لم يصلنا إلا الآن بفضل الكاتب والصحافي والمترجم اللبناني فارس يواكيم، أي تأخر عنا قرابة ثمانين عاما!. واختار يواكيم له عنوانا مختلفا بالعربية، وهو «عنف الديكتاتورية».
كان صاحب «رسالة من امرأة مجهولة» و«لعبة الشطرنج» وغيرهما من عشرات القصص القصيرة والمسرحيات والترجمات، في الثانية والخمسين من عمره آنذاك، وكان ما يزال في وطنه. ولم يكن أمامه سوى اللجوء إلى التورية أمام العنف الممنهج الذي أشاعه النازيون في كل مناحي الحياة. ظاهريا يعود الكتاب إلى أربعة قرون متناولا حياة كالفن (الطاغية صاحب المذهب الكالفيني، الذي أذاق الناس الأمرين باسم الدين كما يراه). فقد تجاوز، كما جاء في الكتاب،، محاكم التفتيش الكاثوليكية، التي في كل الأحوال، لم تكن ترسل مستطلعا أو مخبرا إلا بعد ورود وشاية. لكن في عهد كالفن، اعتبر كل إنسان مهيئا للشر، وكل فرد متهما سلفا بالخطيئة. وانتهى الأمر بالتفاف الناس ورجال الدين جميعهم حوله! بل حتى استجدوه للبقاء في السلطة إلى الأبد.
لم يقف في وجه كالفن سوى رجل واحد هو كاستيليو، المثقف الموسوعي، الذي كان من أنصاره، لكنه ثار ضده بعدما لم يعد قادرا على تحمل طغيانه. كالفن، في كتاب زفايغ، لم يكن سوى قناع. ففي كل صفحة يطل علينا هتلر من وراء هذا القناع، كما يطل علينا كل الطغاة، الأقدمين والمحدثين، مع تغيير الديكور. وإذا كان كالفن قد ألبس طغيانه لبوس الدين، فهتلر والطغاة اللاحقون ألبسوه لبوس الأمة.
ويرى زفايغ، مثل توماس مان، أن الأمة تتحمل مسؤولية كبرى في صناعة الديكتاتور في ظروف معينة. لكن حتى لو بقي رجل واحد، أو ضمير حي واحد، في هذه الأمة، فإن الديكتاتور لا يمكن أن تغمض له عين. وهذا ما حصل لكاستيليو، الذي عذب ونفي على يد كالفن، وحصل لزفايغ نفسه على يد هتلر. وما يزال يحصل لكل من يقول «لا»، حتى لو كان وحده.
__________
شاعر من العراق يقيم في لندن (الشرق الأوسط)

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *