مسلسل سوري


حنان الشيخ

أتخيل أن يأتي يوم قريب نوعا ما، أتابع فيه مسلسلا دراميا من إنتاج سوري ضمن عدة إنتاجات فنية تعيد سورية إلى واجهة الصدارة الفنية والثقافية من جديد.

وأتخيل أن يكون اسم المسلسل “على سبيل الذاكرة”، كما هي عادة الأعمال السورية الجميلة التي كانت تبهرنا بعناوينها ومشاهدها وموائدها العامرة. بالحوار الواقعي العقلاني الشبيه بحواراتنا اليومية العادية، بأغاني الإشارات والموسيقى التصويرية.
أتخيل مشهدا مؤكدا لن يغيب عن المسلسل، يجلس فيه طلاب الصف الرابع الابتدائي، على بقايا مقاعد وطاولات محطمة، في أول يوم دراسي جديد، ويتزاحمون على درج قابل للاستخدام، فيما عيونهم تتلفت يمينا ويسارا يستجدون وجوها كانوا يعرفونها، تشاركهم القراءة والنشيد ومنقوشة الزعتر. يتأكدون أن بقايا من بقاياهم ما تزال على قيد الحياة، فيما نسمع في الخلفية شهقات شبه مكتومة، لطفلة تبكي زميلها الذي قضى بصاروخ هد منزل أهله فوق كل شيء. وسنرى في المشهد نفسه أيضا، بقية الأطفال يتهامسون في شك ونميمة، أنها تبكيه لأنها كانت تحبه!
ماذا يمكن أن يتضمن المشهد أيضا؟ طبعا السبورة في الواجهة محتفظة بآخر تاريخ كتبه الأستاذ قبل عامين ونصف العام. وفي الوسط سنرى “أعرب بيت الشعر التالي”.
ولأنه مسلسل سوري سيكتبه كاتب واقعي غير مغرق بالمباشرة السخيفة التي يحلو للكتاب أن يلجأوا إليها كثيرا على أساس أنها إسقاطات، فبالتأكيد لن يكون بيت الشعر على شاكلة “بلادي وإن جارت علي عزيزة، وأهلي وإن ضنوا علي كرام”.
لا لا لا! لن يفعل الكاتب ذلك، فقد اتفقنا أنه مسلسل محترم وذكي. سيكون البيت بكل بساطة “ومن لم يعانقه شوق الحياة تبخر في جوفها واندثر”.
ستدخل إلى الصف معلمة جديدة، لا يعرفها الصغار، وتقرر أن تكسر لوح جليد التعارف الجديد، في ظل أزمة البدايات بعد الانهيارات. ستلقي تحية الصباح السريعة، على الأطفال الذين سيترددون في قرار قيامهم احتراما لها.
ستؤشر لهم بكفها أن يلزموا أماكنهم حتى لا تقع المقاعد من تحت سيقانهم التي تثبتها بقوة. ستنظر إلى اللوح والتاريخ وتمسح بيدها، حيث لا توجد ممسحة رقمين أو ثلاثة وتقوم بتعديله.
ستبتعد قليلا عن السبورة لترى بيت الشعر، فتقرر أن تبقيه على حاله مع إعادة رسم بعض الحروف الممسوحة. ثم تلتفت للأطفال الصامتين بحكم العادة. وحين تكتشف أن طاولة المعلم أيضا مكسورة تقرر أن تجلس على الأرض!
في المشهد ذاته، سينسل الأطفال واحدا تلو الآخر إلى جانب المعلمة، ويكونون نصف دائرة ضيقة محشورة بين مقاعد الصف، وحطام أثاث غير معلوم الأساس.
فيما موسيقى تصويرية مألوفة تبدأ تعلو شيئا فشيئا. ستطلب منهم المعلمة أن يشبكوا أيديهم سويا، وتبدأ هي بالغناء فيما الطلاب ينظرون إلى بعضهم باستهجان واستحياء، ومحاولة استكشاف لنوايا بعضهم بعضا. لكنهم سيجدون أنفسهم يرددون وراءها: “من يحلم بالوصول.. لقلوب جميع الناس، هو من يعطي الطفل الإفادة. تخيل أن الكون.. لا طعم له أو لون وأن التلفزيون من غير سبيس تون”.
يا إلهي كيف اختصرنا حلمنا بمشهد تمثيلي مفترض؟ يا إلهي كم نحن هالكون بمضينا في الحزن والألم، كم نحن خجلون من أمانينا العادية في العودة إلى حياة عادية. كم نعاتب أنفسنا حين نقول إنها عادية، ثم نعاتب أنفسنا ثانية على عتابنا الأول!
تعرفون؟ حين يضج بي الحنين إلى الشام، أجدني أفتح سرا قناة سبيس تون، وأغني..
_______
* جريدة (الغد)

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *