نص نادر لتوفيق الحكيم:” الطبيب الشرعي”



‮” .. ‬لم‮ ‬يمض اليوم الأول حتى جاءه‮ »‬التمرجي‮« ‬يناوله عشرة جنيهات قائلاً‮: ‬إنها الإيراد اليومي،‮ ‬فلما سأله عن مصدرها قال‮: »‬خير ربنا كثير‮”.. ‬ومضى الشهر الأول فكان إيراده ثلاثمائة جنيه خلاف مرتبه‮..”
كنا نقطن ذلك المنزل الذي تديره سيدة‮ ‬يونانية في ذلك البندر الكبير من بنادر الأقاليم‮.. ‬نزل نظيف‮ ‬يحوي عدة حجرات متسعة حسنة الفرش،‮ ‬أغنانا عن استئجار البيت المستقل‮.. ‬كان خير مأوى للعذاب من الموظفين المقيمين أو المارين في مهام رسمية قصيرة الأجل‮.. ‬كنت تجد فيه القاضي القادم لجلسة عابرة،‮ ‬أو المفتش في الداخلية أو المالية أو التعليم الآتي في مأمورية عاجلة‮.‬
أما المقيمون فكانوا ثلاثة‮.. ‬أنا وكيل نيابة البندر‮.. ‬ورجل أيرلندي هو مدرس اللغة الإنجليزية بالمدرسة الثانوية‮.. ‬ثم طبيب شرعي المديرية‮.‬
كان من الطبيعي أن تقوم صلة بيني وبين الطبيب الشرعي بحكم العمل‮.. ‬فإن أكثر الإصابات الناتجة عن الجرائم التي أتولى تحقيقها كان عليه هو أن‮ ‬يفحصها‮.. ‬واقتضى الأمر مني أن أذهب إلى محل عمله‮.. ‬فكنت أعجب لمنظر المكان‮.. ‬أكوام من اللبد والطواقي المثقوبة بالعيارات النارية،‮ ‬وأنواع مختلفة الأحجام من النبابيت والفئوس والبنادق الطويلة والمقروطة،‮ ‬وألوان من الجلاليب والصداري والعباءات ملطخة بالدماء‮.. ‬كان الطب الشرعي وقتئذ قد أدخل حديثاً‮ ‬في بعض المديريات الكبرى،‮ ‬ولم تزل المديريات الأخرى تلجأ في فحص جرائمها إلى مفتش الصحة،‮ ‬كما كنا نلجأ من قبل‮.. ‬ولطالما لجأت إلى مفتش الصحة،‮ ‬وهو‮ ‬غير متخصص في هذا العمل الدقيق‮.. ‬فلما شاهدت عمل الطبيب الشرعي المنقطع لفحص الجرائم أخذتني الدهشة‮.. ‬لقد كان‮ ‬يكفيه أن‮ ‬ينظر في لبدة مثقوبة ليقول لي كل شيء عن الجريمة والمجني عليه والقاتل،‮ ‬كأن‮ ‬غجرية تنظر الطالع في كف أو فنجان‮! ‬فإذا هو‮ ‬يتدفق قائلاً‮ ‬لي‮: ‬إن القتيل ضرب على مسافة كذا،‮ ‬ومات في الساعة كذا،‮ ‬وكان عندئذ في وضع كذا،‮ ‬جالساً‮ ‬أو نائماً‮ ‬أو راكباً‮ ‬حماراً‮ ‬أو فرساً‮ ‬أو جملاً‮.. ‬وكان عمله كيت،‮ ‬وحالته المعيشية كيت،‮ ‬وعاداته كيت‮.‬
هذه الاستنتاجات التي ما كانت تخطئ في أغلب الأحيان جعلتني أهتم بهذا النوع العجيب من العمل‮.. ‬وجمع بيننا الجوار في نفس النزل،‮ ‬والتلاقي على مائدة الطعام،‮ ‬فلم‮ ‬يمض قليل وقت حتى نمت الصلة وأصبحت صداقة بيني وبين هذا الطبيب الشرعي تبيح لي الخوض معه في الشئون الخاصة والعامة‮.. ‬قلت له ذات‮ ‬يوم‮:‬
‮- ‬إن عملك هذا لذيذ،‮ ‬ولاشك أنك تمارسه بشغف‮.‬
فقال‮:‬
‮- ‬أكثر من ذلك‮.. ‬لقد ضحيت في سبيله بالثروة التي كانت في انتظاري‮.. ‬لقد كنت في أول عهدي مفتش صحة‮.. ‬وأنت تعرف بالطبع الثروة التي‮ ‬يجمعها مفتش الصحة‮.‬
ثم جعل‮ ‬يقص عليّ‮ ‬ما حدث له في بداية عمله بالوظيفة الأولى.. ‬لقد عين في أقاصي الصعيد‮.. ‬في منطقة رأى فيها الفلاحين‮ ‬يخرجون من شبه جحور ليست آدمية،‮ ‬وأطفالهم تحبو على بطونها كالزواحف،‮ ‬والأمراض ترعى في أجسادهم النحيلة التي لا لون لها ولا دم فيها‮.. ‬لا تظهر لهم ملامح من الذباب الذي‮ ‬يغطي وجوههم وأجسادهم،‮ ‬لقد شك في أن هذا المكان قطعة من بلادنا‮.. ‬ومع ذلك لم‮ ‬يمض اليوم الأول حتى جاءه‮ (‬التمرجي‮) ‬يناوله عشرة جنيهات قائلاً‮: ‬إنها الإيراد اليومي،‮ ‬فلما سأله عن مصدرها قال‮: “‬خير ربنا كتير‮”.. ‬ومضى الشهر الأول فكان إيراده ثلاثمائة جنيه خلاف مرتبه‮.. ‬وفهم كيف‮ ‬يجري العمل المعتاد‮.. ‬فالعيادة المجانية لا‮ ‬يراها هو بل‮ ‬يتلقاها‮ (‬التمرجي‮) ‬ويفهم مرضاها الأوضاع‮: ‬من أراد العلاج المخصوص فليعد نقوده ويقف على جنب‮.. ‬أما من ليس لديه نقود ويريد العلاج المجاني،‮ ‬فها هو ذا العلاج المجاني‮: ‬يفحصه التمرجي فحصاً‮ ‬صورياً‮ ‬ثم‮ ‬يسلمه زجاجة بها ماء مرشح من الزير،‮ ‬ويوصيه أن‮ ‬يشرب منها جرعة قبل الأكل ويصرفه ويحيل علي مفتش الصحة المرضى طلاب المخصوص ممن دفعوا‮.. ‬وظن المفتش أول الأمر أنهم بالمجان،‮ ‬ولكن التمرجي قال له‮: “‬عيب‮ ‬يا سعادة الدكتور تضيع وقتك هدراً‮..” ‬كل هذا خلاف الإتاوات‮.. ‬فالمحال العمومية المطلوب منها اشتراطات صحية،‮ ‬كالمقاهي ومحال البوظة ودكاكين البقالة والجزارة وخلافه‮ ‬يستصدر لها التمرجي من مفتش الصحة الموافقة اللازمة بعد استلام المعلوم،‮ ‬وهو‮ ‬يقول له‮: ” ‬لا تنتقل ولا تتعب نفسك‮ ‬يا سعادة البك،‮ ‬كل شيء تمام‮..” ‬بل إن تصاريح دفن الأموات تعطى،‮ ‬مادام المعلوم‮ ‬يدفع دون أن‮ ‬يكشف أحد على جثة المتوفي‮.. ‬فمن حرق دفن‮.. ‬ومن دس له السم دفن‮.. ‬ومن مات من عدوى أو وباء دفن‮.. ‬والتمرجي‮ ‬يقول لمفتش الصحة وهو‮ ‬يعرض كل حالة ليحصل على الإمضاء‮: “‬امضاءك الكريم‮ ‬يا سعادة الدكتور وأنت مطمئن‮.. ‬الوفاة طبيعية أربعة وعشرين قيراط‮!” ، ‬فيسأله الدكتور‮: “‬أنت متأكد؟‮”، ‬فيشير التمرجي إلى عنقه بحماسة‮: “عيب‮ ‬يا دكتور‮! ‬برقبتي‮!”، ‬وأراد‮ ‬يوماً‮ ‬أن‮ ‬يثور على هذا الحال،‮ ‬وأن‮ ‬يقوم بنفسه‮ ‬يشرف على كل شيء فأفهمه التمرجي أن تغيير الأوضاع سيؤدي إلى ارتباك العمل،‮ ‬لأن العمل سائر علي هذا النحو منذ عشرات السنين‮.. ‬مفتش صحة‮ ‬يأتي ومفتش صحة‮ ‬يذهب،‮ ‬والوضع هو الوضع‮.. ‬لأن هذا شيء متعارف عليه،‮ ‬ومفهوم في المصلحة والحكومة من قديم‮.. ‬ولسنا نحن المطالبين وحدنا من دون الجميع بإصلاح الكون‮ ‬يا سعادة الدكتور‮! ‬ولم‮ ‬يدر الطبيب ماذا‮ ‬يصنع،‮ ‬وسكت على مضض‮.. ‬إن تغيير الوضع لابد له من تغيير الجهاز‮«‬ ‬وأول ما‮ ‬يلزم في هذه الحال هو علي الأقل تغيير الممرض الذي‮ ‬يعمل معه‮.. ‬وأين له بالممرض صاحب العقلية التي تفهمه‮.. ‬إن أي ممرض جديد سيجيء بمثل هذ الفهم وهذا الأسلوب‮: ‬جمع النقود وتسليمها إلى الطبيب بعد حجز ما‮ ‬يستطيع حجزه لنفسه‮.. ‬وخالجت مفتش الصحة فكرة عندما استيقظ ضميره‮: ‬أن‮ ‬يلقي بهذه النقود في وجه التمرجي ويأمره بأن‮ ‬يردها إلى أصحابها‮.. ‬ولكن سرعان ما وجد الفكرة ساذجة،‮ ‬ذلك أن الذي سيحدث هو أن التمرجي سيضع النقود في جيبه بكل بساطة،‮ ‬ولن‮ ‬يرد مليماً‮ ‬واحداً‮ ‬إلى إنسان،‮ ‬ويستمر بعد ذلك‮ ‬يعمل في الخفاء لحسابه الخاص،‮ ‬بأي طريقة‮.. ‬لا جدوى إذن‮..‬ليس أمامه إلا أن‮ ‬يترك هذا العمل إذا كان لا‮ ‬يروق له‮.. ‬وقد فكر بالفعل في تركه‮.. ‬ولكن أين‮ ‬يذهب؟ لابد من انتظار فرصة مواتية‮.. ‬ولكن ضيقه وقرفه ازدادا على أثر خيبة أمله في مأمور المركز أيضاً‮: ‬فقد وصل إلى علمه أن وباء تفشى في قرية نائية من قرى المركز،‮ ‬فأراد الانتقال،‮ ‬وإذا بالمأمور‮ ‬يثبط عزمه قائلاً‮ ‬له‮: ‬لا تصدق‮.. ‬الحالة بخير‮!« ‬فأصر علي الانتقال والمرور بنفسه،‮ ‬واضطر المأمور إلى أن‮ ‬يرافقه،‮ ‬وهناك رأى الحالة على أسوأ ما تكون‮.. ‬ولكن المنطقة كان لها سيد هو أحد كبار الملاك،‮ ‬لم‮ ‬يكن من مصلحته طبعاً‮ ‬أن‮ ‬ينتهي الأمر إلى وضع‮ (كردون) ‬حول القرية،‮ ‬وحجز الفلاحين الذين‮ ‬يعملون في أطيانه‮.. ‬فأوعز إلى المأمور أن‮ ‬يثني الدكتور عن عزمه‮.. ‬وجعلوا‮ ‬يتحايلون ويماطلون ويراوغون،‮ ‬تضييعاً‮ ‬للوقت،‮ ‬وأعدوا له وليمة،‮ ‬فرفض الطعام،‮ ‬فجاءوا إليه بالشاي والسجاير من الدكان الوحيد في القرية،‮ ‬وهو أيضاً‮ ‬تحت إدارة المالك الكبير،‮ ‬افتتحه ليبيع لأهل الناحية ولخفراء نقطة البوليس،‮ ‬وكان وكيل الدايرة‮ ‬يتقاضي من الخفراء ما استجروه من الدكان في أول كل شهر‮.. ‬كان‮ ‬يذهب ومعه قائمة بأسمائهم،‮ ‬يظل‮ ‬ينادي فيها على اسم كل خفير والمستحق عليه،‮ ‬ويقبض من المرتب بعضه أو كله من الصراف مباشرة،‮ ‬كما لو كان مندوب الحكومة‮!.. ‬رفض الطبيب كل ما قدم إليه،‮ ‬لأنه كان‮ ‬يعلم ما وراء ذلك‮.. ‬وظل‮ ‬يعمل ويبحث والمأمور في أثره‮ ‬يقول له مردداً‮: “الحكاية لا تستحق‮.. ‬والله الحكاية كلها ما تستحق اهتمامك‮!..” ‬وجاء الطبيب بالعمدة وسأله عن الحالة الصحية فقال‮: “‬مفيش أحسن من كده‮!” ‬فطلب إليه تقديم دفاتر المواليد والوفيات،‮ ‬فأحضرها له،‮ ‬فما كاد‮ ‬يفتحها وينظر في صفحاتها حتي صعق من الدهشة‮: ‬لقد كانت الدفاتر كلها بيضاء من‮ ‬غير سوء،‮ ‬لم‮ ‬يدون فيها حرف واحد‮.. ‬فصاح‮:‬
‮- ‬أيه ده‮ ‬يا عمده؟ فين المواليد والوفيات؟‮!‬
فقال‮:‬
‮- ‬المواليد في الغيط،‮ ‬والوفيات في القبر‮.‬
فصاح فيه‮:‬
‮- ‬مفهوم‮.. ‬لكن الدفاتر دي سلمت لك لأجل تقيد فيها المولود والمتوفي‮.‬
فقال محتجاً‮:‬
‮- ‬أقيد المولود والمتوفي؟‮! ‬سبحان الله‮! ‬أنت عاوزني أعد على ربنا؟ سبحانه وتعالى هو المتصرف في عباده‮! ‬وهنا لم أتمالك نفسي من الضحك وقلت لصاحبي الطبيب الشرعي وقد توقف قليلاً‮ ‬عن السرد‮.‬
‮- ‬مهمتك كانت صعبة حقاً‮.‬
فاستطرد‮ ‬يقول‮: ‬إن الصعب في الأمر حقاً‮ ‬ليس هو جهل الناس بقدر ما هو فقدان الضمير والشعور بالواجب عند من ليسوا بجهلاء،‮ ‬هؤلاء الذين كان‮ ‬يعتقد أن واجبهم هو أن‮ ‬يعاونوه على محاربة الجهل والمرض،‮ ‬كانوا هم الواقفين في وجهه،‮ ‬يضعون العقبات لمآربهم الشخصية‮.. ‬ولم‮ ‬يستطع أن‮ ‬يكمل شهراً‮ ‬آخر في هذه الوظيفة‮.. ‬عاد إلى القاهرة وقابل الرؤساء،‮ ‬وأفضى إليهم برغبته في الانتقال إلى عمل آخر‮.. ‬وأخرج لهم محفظته وبها ثملاثمائة جنيه قائلاً‮: ‬إنها جملة إيراده في ذلك الشهر خارج مرتبه المشروع‮.. ‬إنه‮ ‬يرد هذا المبلغ‮ ‬الكبير إلى المسؤولين،‮ ‬لأنه جاء من طريق لا‮ ‬يؤمن بشرعيته‮.‬
والتفت نحوي صاحبي الطبيب قائلاً‮:‬
‮- ‬أتدري ماذا كان جواب الرؤساء؟‮! ‬إنك ستعجب كما عجبت‮.. ‬لقد اتهموني بالجنون‮.. ‬وقالوا‮: ‬إن تعييني مفتش صحة في الريف كان من علامات الرضا،‮ ‬لأعمل على تكوين ثروة مثل‮ ‬غيري من الزملاء السابقين واللاحقين‮.‬
فسألته‮:‬
‮- ‬وماذا فعلوا بالجنيهات الثلاثمائة؟
فقال‮:‬
‮- ‬دسوها في جيبي ثانية،‮ ‬وهم‮ ‬يهددوني بقولهم‮: ‬إن معنى هذه الحركة هو الاتهام الصريح لكل الرؤساء والمسئولين الكبار،‮ ‬لأنهم كلهم قد مروا بهذه المرحلة في تفتيش الصحة بالأقاليم وكونوا ثرواتهم بنفس الطريقة،‮ ‬واقتنوا العقارات والضياع كما هي العادة‮!‬
‮- ‬وأخيراً؟
‮- ‬أخيراً‮ ‬أنقذني الله،‮ ‬أو أنقذوا هم أنفسهم من لساني بأن عرضوا عليّ‮ ‬السفر في بعثة إلى انجلترا للتخصص في الطب الشرعي‮.. ‬قبلت طبعاً‮ ‬بسرور،‮ ‬وسافرت بالفعل ودرست هناك عامين وعدت لأعمل طبيباً‮ ‬شرعياً‮ ‬كما ترى..‬
‮- ‬ليس لك‮ ‬غير مرتبك‮.‬
‮- ‬فقط ولله الحمد،‮ ‬وعملي هذا اللذيذ الذي أحبه،‮ ‬لأنه كما رأيت أنت هو شيء أشبه بالفن‮.‬
‮- ‬حقاً‮!‬
قلتها وأنا شارد البال‮.. ‬أفكر في شخصية هذا الطبيب الذي رفض حياة جمع المال،‮ ‬مفضلاً‮ ‬الحياة من أجل العمل الذي‮ ‬يحبه‮.. ‬أهي شخصية مثالية شاذة أم أن هذه هي الشخصية الطبيعية التي‮ ‬يجب أن تكون لكل طبيب‮.. ‬لكل طبيب حق؟ الشيء المخيف حقاً‮ ‬هو أنه قد اعتبر مجنوناً‮ ‬لأنه بهذه الأخلاق‮.. ‬إذن هل نيأس من أن نرى‮ ‬يوماً‮ ‬الفقير‮ ‬يعالج بالمجان؟ ربما وضعت النظم التي تكفل مثل هذا العلاج المجاني،‮ ‬ولكن من‮ ‬يضمن لنا أن الأمر لن‮ ‬يسير كما تسير العيادات المجانية التي ذكرها؟
يذهب الفقير إلى الطبيب فيعالجه العلاج الذي‮ ‬يستحقه الفقر والمجان،‮ ‬ويفهم من طرف خفي أن هناك علاجاً‮ ‬آخر مخصوصاً‮ ‬لمن‮ ‬يدفع الأجر؟ فيضطر الفقير إلى الحصول من أي طريق على أجر العلاج الخفي المخصوص؟‮! ‬وبهذا تمكن النظم للطبيب من أن‮ ‬يربح من الناحيتين‮: ‬مرتب الانقطاع للعلاج المجاني،‮ ‬ثم أرباح العلاج في السوق السوداء‮! ‬إنها ليست النظم إذن‮! ‬إن النظم وحدها ليست هنا بكافية‮.. ‬إن المطلوب أولاً‮ ‬الأخلاق‮.. ‬المثل العليا‮.. ‬أن تكون شخصية هذا الطبيب المثالي هي القاعدة العامة،‮ ‬وليست الشذوذ ولا الجنون‮!‬
ولكن‮.. ‬كيف‮ ‬يحدث هذا في مجتمع أساسه كله قائم على اعتبار جمع المال هو القيمة المثالية‮.. ‬إن الأطباء اعتادوا أن‮ ‬يتنافسوا،‮ ‬لا في عدد من عالجوهم بالمجان من الفقراء،‮ ‬ولا في الكشف الفني عن علاج جديد،‮ ‬ولا في التفوق العلمي وحده،‮ ‬بل في مستويات الدخل والإيراد‮.. ‬سمعت فعلاً‮ ‬في بعض المجالس عن طبيب‮ ‬يدخل على زملائه بعد انتهاء عيادته آخر النهار ليعلن إليهم في صيحة الانتصار‮: “‬بعد إيراد هذا الشهر أكون قد وصلت إلى العشرين ألفاً‮!” ‬من الجنيهات طبعاً‮.. ‬فيرد عليه زميل‮ ” أنت متأخر جداً‮!.. ‬من في مثل دفعتك له الآن مستشفاه الخاص،‮ ‬يدر عليه مثل هذا المبلغ‮ ‬سنوياً‮!” ‬هذا علاوة على التفاخر بالمقامات والمكانات تبعاً‮ ‬لرسم العيادة‮.. ‬كشف الدكتور فلان خمسة جنيهات،‮ ‬وأنا لست أقل منه شأناً‮.. ‬هذا هو مقياس المستوى الفني‮.. ‬لا عند طائفة الأطباء وحدهم‮.. ‬بل عند كل طوائف المجتمع‮.. ‬مقياس الكفاءة عند المحامي والمهندس والممثل والمقاول،‮ ‬ومقياس الاحترام للشريف وغير الشريف واحد في هذا المجتمع‮: ‬محفظة نقوده‮.. ” ‬معك قرش تساوي قرشاً‮.. ‬معك جنيه تساوي جنيهاً‮” ‬هذا هو شعار المجتمع كله‮.‬
وخرجت من شرودي وتأملي وقلت لصاحبي الطبيب‮:‬
‮- ‬متى ‬يكون كل الناس مثلك؟‮!‬
‮- ‬في أي شيء تقصد؟
‮- ‬أقصد‮.. ‬في أن تكون قيمة المواطن فيما‮ ‬يحب ويحسن من عمل،‮ ‬لا فيما‮ ‬يباهي ويجمع من مال؟‮!‬
ففكر قليلاً‮ ‬ثم قال في شبه همس‮:‬
‮- ‬لست أدري‮..‬
فقلت له‮:‬
‮- ‬حقاً‮.. ‬ليس الأمر سهلاً‮! ‬لكي‮ ‬يحدث هذا‮ ‬يجب أن‮ ‬يغير المجتمع كله شعاره ونظرته‮.. ‬ولكي‮ ‬يغير المجتمع مثله ونظرته وشعاره‮ ‬يجب أن‮ ‬يتغير هو نفسه من أساسه‮!‬
كان العمل مع هذا الطبيب متعة‮.. ‬خرجنا ذات‮ ‬يوم إلى إحدى القرى،‮ ‬على أثر وصول بلاغ‮ ‬من مجهول‮ ‬يفيد بأن جثة أحد الأهالي مدفونة في قاعة الفرن بدار إحدى الريفيات‮.. ‬وقد استخرجت الجثة فعلاً‮ ‬من تلك القاعة‮.. ‬واتضح أنها لزوج هذه الريفية‮.. ‬كان قد اختفى منذ مدة‮.. ‬وزعمت الزوجة أنه ذهب إلى بلدة نائية تزوج فيها بامرأة أخرى.. ‬سرنا في التحقيق شوطاً‮.. ‬ولم تجد الزوجة بداً‮ ‬من الاعتراف بأن زوجها قتل في هذه القاعة أمام عينيها‮.. ‬فوجود الجثة مدفونة في دارها لا‮ ‬يدع مجالاً‮ ‬لإنكارها‮.. ‬ولكنها أنكرت وأصرت على الإنكار أن لها‮ ‬يداً‮ ‬في القتل،‮ ‬كيف حدث القتل إذن؟‮! ‬ومن القاتل؟ جماعة لا تعرفهم‮.. ‬كانوا ملثمين،‮ ‬دخلوا عليها هي وزوجها ليلاً،‮ ‬وطعنوه بسكين ودفنوا جثته في أرض القاعة،‮ ‬وهددها بالحرق إذا هي نطقت بحرف عما حدث‮.. ‬لماذا فعلوا به ذلك؟ قالت إنها لا تدري‮.. ‬ولعله ثأر قديم لا تعرف عنه شيئاً‮.. ‬فزوجها كان‮ ‬يقول لها أحياناً‮ ‬أن له أعداء في بلدة أخرى،‮ ‬ولكنه لم‮ ‬يصرح لها بشيء أكثر من هذا‮.. ‬ولم‮ ‬يخطر لها هي أن تسأله،‮ ‬لأن الموضوع وقتئذ لم‮ ‬يظهر لها بالأهمية التي تسترعي الالتفات‮.. ‬وكانت المرأة تتكلم بهدوء ووضوح وصراحة،‮ ‬وكل ما فيها‮ ‬يوحي بأنها جديرة بالثقة والتصديق‮.. ‬لقد بدت الحادثة منطقية على هذا الوضع‮.. ‬وكل ثغرة فيها أصبحت مسدودة‮.. ‬فلم‮ ‬يبق إلا أن نقيدها قضية قتل ضد مجهولين‮.. ‬إذ لم نر هناك بصيصاً‮ ‬من أمل في معرفتهم،‮ ‬والمرأة لم تر وجوههم الملثمة،‮ ‬ولا تعرف أصواتهم،‮ ‬لأنهم من بلدة أخرى بعيدة لا تعرفها كذلك‮.. ‬ولكن لماذا كتمت الأمر وانتحلت سبباً‮ ‬لاختفاء زوجها؟ لماذا لم تبلغ‮ ‬البوليس؟ قالت إنها خافت من تهديدهم‮.. ‬فقد كان منظرهم مرعباً‮ ‬وهم‮ ‬يقتلون زوجها‮! ‬ثم ما هي الفائدة من إحضار البوليس؟ أهو سيعيد إليها زوجها حياً؟‮! ‬لا بالطبع‮.. ‬إذن كل ما ستجنيه من تبليغ‮ ‬البوليس هو تعريض نفسها لانتقام الجناة،‮ ‬ولو بعد حين‮.. ‬وهاهو ذا زوجها قد ذهب ضحية ثأر أو انتقام‮.. ‬أفلا‮ ‬يكفي هذا درساً‮ ‬لها‮.. ‬لقد آثرت السكوت،‮ ‬ورأت فيه السلامة والعافية،‮ ‬وهي المرأة الضعيفة‮! ‬ألم تحسن صنعاً؟ فهززت رأسي‮.. ‬ولم أدر بماذا أجيبها‮! ‬كلامها‮ ‬معقول‮! ‬إنها وجهة نظر مقبولة علي كل حال‮.. ‬وطويت أوراقي،‮ ‬وعدت أدراجي‮.‬
وانصرف صاحبي الطبيب الشرعي في صمت إلى بحثه،‮ ‬وانقطع له أسبوعاً،‮ ‬غاب فيه عن نظري‮.. ‬ثم ظهر فجأة أمامي ومعه التقرير،‮ ‬وهو‮ ‬يقول باسماً‮:‬
‮- ‬اسمع‮ ‬يا سيدي نتيجة الفحص‮!‬
قلت له بغير اهتمام كبير،‮ ‬كأني متوقع أنه لن‮ ‬يأتي في الأمن بجديد‮.‬
‮- ‬تفضل‮!‬
فقال بهدوء متواضع‮:‬
‮- ‬أولاً‮ ‬القتل لم‮ ‬يحدث في القاعة،‮ ‬بل حدث في الغيط‮.. ‬ثانياً‮ ‬لم‮ ‬يحدث القتل بسكين،‮ ‬بل حدث بالخنق وبواسطة حبل من الليف،‮ ‬ثم وضعت الجثة في زكيبة من زكايب القطن حملت على جمل إلى القاعة حيث دفنت‮.. ‬ثالثاً‮ ‬المرأة اشتركت قطعاً في القتل مع شخصين آخرين على الأقل‮..‬
فصحت من الدهشة‮:‬
‮- ‬أأنت أيضاً‮ ‬تؤلف روايات؟‮!‬
فقال ضاحكاً‮:‬
‮- ‬ولمَ‮ ‬لا‮.. ‬إنني أؤلف فعلاً‮.. ‬ولكن فقط‮.. ‬على أساس من عناصر حقيقية ملموسة‮.‬
‮- ‬قل لي بالله كيف عرفت أن القتل حدث في الغيط؟
فأجاب‮:‬
‮- ‬لأني وجدت الكف اليسرى لجثة القتيل قابضة على أعواد دقيقة متكسرة من أعواد القطن‮.. ‬لقد فوجئ وهو في الغيط وسط زراعة قطنه‮.. ‬ولو كان في داره ليلاً‮ ‬لما كان هناك سبب لاستمرار قبضه على هذه الأعواد‮.‬
‮- ‬وكيف عرفت أنه خنق بحبل ليف؟
قال‮:‬
‮- ‬معرفة الخنق بسيطة جداً‮.. ‬وأنت لا تجهل ذلك‮.. ‬ولعلك تقصد لماذا خنق بحبل ليف بالذات؟ هنا العقدة‮! ‬والجواب أنني لاحظت حول عنقه بضعة خيوط دقيقة لا تكاد تُرى،‮ ‬وبفحصها تحت الميكروسكوب تبين لي أنها خيوط ليف مما‮ ‬يستعمل في جدل حبال المواشي‮.‬
قلت له‮:‬
‮- ‬وكيف عرفت أن الجثة نقلت في زكيبة على جمل؟
قال‮:‬
‮- ‬هذا مجرد استنتاج‮.. ‬لأني أبصرت جملاً‮ ‬في زريبة الدار،‮ ‬كما أبصرت أكياس قطن مفروشة فوق الفرن‮.. ‬وبما أن القتل حدث في الغيط،‮ ‬فما من وسيلة لنقل الجثة إلى القاعة لدفنها إلا بوضعها في الزكيبة وحملها على الجمل،‮ ‬والزكيبة والجمل موجودان فعلاً‮ ‬في الدار‮.‬
قلت له‮:‬
‮- ‬إلي هنا كل هذا جائز‮.. ‬لكن ما دليلك على اشتراك الزوجة في القتل؟
فأجاب علي الفور‮:‬
‮- ‬أما هذا فمؤكد‮.. ‬وإليك الدليل القاطع‮: ‬وجود شعر لرأس امرأة في قبضة القتيل اليمنى التي وجدتها‮.. ‬قد تشنجت وماتت على هذه الخصلات‮.. ‬وبمضاهاتها بشعر الزوجة‮.. ‬أثبت الفحص أنها لها‮.. ‬والذي حدث هو أن القتيل قد قاوم بالطبع قاتليه،‮ ‬وأثناء المقاومة أراد أن‮ ‬يقبض على رأس المرأة‮.. ‬أما أنها كانت مع شخصين آخرين علي الأقل،‮ ‬فهذا واضح من أنه لا‮ ‬يمكن لامرأة بمفردها القيام بكل هذه العملية،‮ ‬واستبعد أن‮ ‬يكون معها شخص واحد آخر فقط،‮ ‬فالقتيل ضخم فارع قوي،‮ ‬وليس من السهل على رجل وامرأة وحدهما التغلب عليه وخنقه بحبل‮!‬
قلت وأنا أتعجب‮:‬
‮- ‬شيء عجيب‮! ‬أعطني التقرير‮!‬
وقمت في الحال بفتح باب التحقيق من جديد،‮ ‬وأمرت بالقبض علي الزوجة،‮ ‬وواجهتها بالتهمة وصورت لها الجريمة كما حدثت طبقاً‮ ‬لما جاء في تقرير الطبيب الشرعي،‮ ‬وإذا بالمرأة تُذهل وتنهار،‮ ‬وتأخذ في الاعتراف،‮ ‬وتقص علينا تفاصيل الجريمة كما وقعت بالفعل‮.. ‬فإذا أنا أُذهل بدوري‮.. ‬فقد كان كل ما تصوره الطبيب الشرعي وخلته أنا تأليفاً‮ ‬روائياً‮ ‬إنما هو حقيقة واقعة‮.. ‬فالقتلة كانوا رجلين معها‮.. ‬هما شقيقاها‮.. ‬وتم القتل فعلاً‮ ‬بالخنق بحبل الجمل الليف‮.. ‬بعد‮ ‬غروب الشمس‮.. ‬في‮ ‬غيط القتيل‮.. ‬ذهبت المرأة مع‮ ‬شقيقيها إلى الغيط ليساعدوا الزوج على تحميل أكياس قطنه على ظهر الجمل،‮ ‬وكانوا قد تآمروا على انتهاز‮ ‬غفلة منه،‮ ‬وخلو الغيطان المجاورة من أصحابها،‮ ‬وعودة الفلاحين مساء مع مواشيهم إلى دورهم،‮ ‬للانقضاض عليه وخنقه وحمله في زكيبة قطن فارغة لدفنه في الدار‮.. ‬لقد رفضوا فكرة ذبحه بشرشرة البرسيم،‮ ‬أو فلق رأسه بالفأس،‮ ‬خشية أن‮ ‬يسيل دمه في الغيط ويلوث ثيابهم،‮ ‬ويحتاج إخفاء الجريمة إلى مشاكل ومتاعب ووقت طويل‮.. ‬فاستقر رأيهم علي هذه الطريقة،‮ ‬وكادت تنجح حقاً‮ ‬في إخفاء كل أثر للجثة والجريمة والقتلة،‮ ‬لو لم‮ ‬يطلع لهم من تحت الأرض صاحبنا الطبيب الشرعي،‮ ‬فيهتك سترهم بفنه العجيب‮.. ‬ليس من المهم بعد ذلك أن نعرف سبب الجريمة‮.. ‬إنه سبب فارع تافه من تلك الأسباب التي‮ ‬يضخمها الجهل في الريف فتودي إلى القتل‮.. ‬إنه‮ ‬غيظ الزوجة من زوجها الذي كان‮ ‬ينوي التزوج عليها من امرأة في بلدة أخرى،‮ ‬وفزعها من أن‮ ‬يذهب بالقيراطين المملوكين له إلى الضرة الجديدة،‮ ‬ويتركها بلا عائل‮.‬
وجلسنا بعد العشاء في شرفة المنزل،‮ ‬بعد أن فرغنا من هذه القضية،‮ ‬أنا وصاحبي الطبيب الشرعي،‮ ‬نتجاذب الحديث‮.‬
قلت له‮:‬
‮- ‬أتعرف أن عملك فعلاً‮ ‬هو عمل فني؟
فقال باسماً‮ ‬كمن‮ ‬يري أني أقول شيئاً‮ ‬بديهياً‮ ‬لا جديد فيه ولا معنى له‮:‬
‮- ‬طبعاً‮.. ‬أنا كادر فني‮ ‬يا أستاذ‮!‬
فقلت موضحاً‮:‬
‮- ‬لا‮.. ‬ليس هذا ما أقصد‮.. ‬إنني أقصد أنه عمل مشابه من بعض النواحي لعمل الروائي والمسرحي والمصور والموسيقي والشاعر‮.‬
‮١‬ــ‮ ‬تقصد الخيال‮..‬
‮- ‬الخيال في أعمق معانيه‮: ‬وهو القدرة علي تشكيل الحقيقة من العناصر المتفرقة‮.. ‬تصور الأشياء تصوراً‮ ‬يشكل منها حياة نابضة‮.. ‬تركيب أجزاء صغيرة متناثرة‮ ‬غير ملاحظة تركيباً‮ ‬يبرز خلقاً‮ ‬كاملاً‮ ‬للحقيقة‮.. ‬إنك من بضعة خيوط،‮ ‬وخصلة شعرات استطعت أن تعيد بناء الحقيقة‮! ‬الفنان لا‮ ‬يفعل أكثر من ذلك،‮ ‬ببضعة ألفاظ أو ألوان أو أنغام‮ ‬يستطيع أن‮ ‬يعيد تركيب حقيقة هذا الوجود الإنساني‮!.. ‬ولم‮ ‬يصغ‮ ‬هو إلى قولي،‮ ‬فقد أرهف أذنه إلى صوت موسيقي تتسرب إلينا من خلال باب نصف مغلق في الجانب الآخر من الشرفة‮.. ‬فأرهفت أذني أنا وقلت‮:‬
‮- ‬هذه افتتاحية الناي المسحور لموزار‮..‬
فالتفت الطبيب إلي الجهة الآتي منها الصوت وقال‮:‬
‮- ‬إنها حجرة المدرس الأيرلندي‮!‬
‮- ‬عن إذنك‮!‬
قلتها وأنا أنهض ميمماً‮ ‬شطر هذه الحجرة‮.. ‬فإن سحر موزار على روحي لا‮ ‬يقاوم‮.. ‬لم تكن صلتي بهذا الأيرلندي وثيقة‮.. ‬كل ما بيننا من علاقة لم‮ ‬يتجاوز تلك الأحاديث العادية التي‮ ‬يتبادلها النزلاء على مائدة العشاء‮.. ‬ولكني صممت في تلك اللحظة على أن أوثق صلتي به من أجل موزار‮.. ‬واقتربت من حجرته وأرسلت البصر من خلال الباب نصف المغلق،‮ ‬فشاهدته مستلقياً‮ ‬على المقعد الكبير ماداً‮ ‬ساقيه فوق الكرسي الخيزران،‮ ‬وإلى جانبه فوق المنضدة فونوغراف على شكل حقيبة،‮ ‬كان‮ ‬يعتبر طرازاً‮ ‬حديثاً‮ ‬نادراً‮ ‬في ذلك العهد‮.. ‬طرقت الباب طرقاً‮ ‬خفيفاً،‮ ‬سمعه فانتفض ناهضاً‮ ‬على قدميه‮.. ‬فلما رآني بدت في عينيه نظرات العجب والتساؤل،‮ ‬ومد‮ ‬يده في الحال‮ ‬يسكت أسطوانة موزار‮.. ‬وخفت أن تذهب به الظنون بعيداً‮.. ‬ويخيل إليه أني جئت بصفتي الرسمية لأمر‮ ‬يتصل بالنيابة والقانون‮.. ‬فأسرعت أقول له باسماً،‮ ‬وأنا أشير إلي الفونوغراف‮:‬
‮- ‬أرجوك‮! ‬فلتستمر الأسطوانة‮! ‬إني ما جئت إلا من أجلها‮!‬
فعاد الهدوء والصفاء إلى وجهه،‮ ‬ودعاني إلى الجلوس وهو‮ ‬يقدم لي كرسياً،‮ ‬ويقول في ابتسامة ترحيب‮:‬
‮- ‬أتحب هذه الموسيقى؟‮!‬
‮- ‬جداً‮ ‬وخصوصاً‮ ‬موسيقى موزار‮.‬
‮- ‬من حُسن الحظ أن عندي منها الكثير‮.‬
وأشار إلى مجموعات عديدة رص بعضها فوق بعض،‮ ‬ثم أخذ‮ ‬يتناول منها ويناولني لأشاهد،‮ ‬وإذا كل مجموعة داخل‮ ‬غلاف من الجلد تحوي سيمفونية كاملة‮.. ‬ياللعجب‮! ‬ما كل هذا العدد لسيمفونيات موزار‮! ‬وما كل هذه العناية في جمعها‮! ‬لقد بهرني ما رأيت‮.. ‬إن أغلب هذه الأعمال لم أكن قد أطلعت عليها من قبل‮.. ‬فما أتيح لي سماعة لموزار لم‮ ‬يجاوز بعض الافتتاحيات،‮ ‬وقليلاً‮ ‬من الأوبرات،‮ ‬وسيمفونية واحدة أو اثنتين علي الأكثر‮.. ‬ولم أكن عل علم إطلاقاً‮ ‬بأن موزار كتب كونشرتو للفلوت والأوركسترا‮.. ‬وهاهو ذا بين‮ ‬يدي هذا الكونشرتو في مجموعة كاملة داخل‮ ‬غلاف جلدي جميل‮! ‬خيّل إليّ‮ ‬أنه مر وقت طويل وأنا لاه عن الرجل صاحب الحجرة،‮ ‬أقلب مجموعاته ذاهلاً‮ ‬لا أشعر بما حولي‮.. ‬إلى أن وجدت‮ ‬يده تمتد في رفق إلى ما في‮ ‬يدي من أسطوانات،‮ ‬وهو‮ ‬يقول‮:‬
تحب أن تسمع شيئاً‮ ‬منها بالذات؟
فأفقت وفهمت أنه أراد أن‮ ‬يخرجني من هذا الموقف الذي طال،‮ ‬فقلت له وأنا خجل‮:‬
‮- ‬نعم‮.. ‬أكون شاكراً‮!‬
‮- ‬هل وقع اختيارك على شيء؟
فلم أعرف ماذا أختار؟ كل ما عنده‮ ‬يغري بالاستماع‮.. ‬بل إنني في حاجة إلى سماعها كلها‮.. ‬كلها‮.. ‬ولكن بالطبع وقته لن‮ ‬يسمح لي بأكثر من اسطوانتين أو ثلاث‮.. ‬ولا‮ ‬ينبغي أن أطيل جلوسي‮ ‬ في حجرته إلى حد‮ ‬يضايقه وحسبي أنني تطفلت واقتحمت عليه خلوته،‮ ‬وجعلته‮ ‬يترك جلسته المريحة المستلقية المتراخية،‮ ‬ليتكلف لي حسن الاستقبال والضيافة‮.. ‬تركت له هو الاختيار‮.. ‬فاختار السيمفونية القصيرة من المقام الصغير‮.. ‬وما كادت تنتهي وأنا‮ ‬غارق‮ ‬غرقاً‮ ‬في المتعة،‮ ‬حتى أغلق الفونوغراف،‮ ‬كأنما أراد أن‮ ‬يسد عليّ‮ ‬الطريق‮.. ‬وقال وهو‮ ‬يبتسم‮:‬
‮- ‬بديعة‮.. ‬أليس كذلك؟‮!‬
‮- ‬جداً‮.‬
‮- ‬إنه ليسرني أن تشاركني الاستماع كلما سمح بذلك وقتك‮.‬
‮- ‬بكل سرور‮! ‬بل إن هذا ليسرني أنا ويسعدني بنوع خاص‮!‬
قلتها بإخلاص وكأنها نابعة من أعماق قلبي،‮ ‬وصافحته شاكراً‮ ‬وانصرفت‮.. ‬وصرت بعدئذ أحوم حول حجرته أملاً‮ ‬في أن‮ ‬يدعوني إلى الاستماع‮.. ‬ولكن شاء سوء الحظ أن‮ ‬يشغل في تحضير امتحانات نصف العام،‮ ‬وفي تصحيح الأوراق وغير ذلك من المشاغل التي صرفته عن الموسيقى‮.. ‬فلم أعد أسمع من خلال بابه صدى لصوت‮.. ‬بل إن بابه نفسه أصبح مغلقاً‮ ‬عليه،‮ ‬فأغلق بذلك دوني باب الرحمة‮! ‬وفي ذات صباح مررت ببابه فوجدته مفتوحاً‮.. ‬ولم‮ ‬يكن هو بالحجرة،‮ ‬فقد علمت أنه انصرف مبكراً‮ ‬ليكون في المدرسة في تمام الثامنة،‮ ‬لحضور الحصة الأولى،‮ ‬أو لأعمال المراقبة في الامتحانات،‮ ‬لست أدري‮.. ‬ولم‮ ‬يكن هذا بالمهم عندي‮.. ‬المهم هو أن حجرته كانت خالية،‮ ‬وقد لمحت فيها الفونوغراف فوق المنضدة،‮ ‬ومجموعات الأسطوانات مرصوصة،‮ ‬وكأنها تناديني‮.. ‬كان الإغراء شديداً‮.. ‬لم أستطع المقاومة فدخلت حجرته،‮ ‬وأخرجت كونشرتو الفلوت لموزار،‮ ‬وجعلت أستمع‮..‬
تكرر مني هذا الفعل‮.. ‬حتى كدت أنتهي من سماع كل ما في المجموعات بهذه الطريقة‮.. ‬أترقب خروجه المبكر إلى عمله،‮ ‬فأدخل متلصصاً‮ ‬إلى حجرته،‮ ‬قبل أن‮ ‬يدخل إليها الخادم لتنظيفها وتنظيمها وترتيب فرشها‮.. ‬فأسمع على عجل سيمفونية أو اثنتين،‮ ‬ثم أخرج إلى عملي أو إلى جلستي التي تفتتح عادة في التاسعة‮.‬
ولكن ضميري أخذ‮ ‬يوبخني على هذا الفعل الشائن‮.. ‬رويت القصة لصاحبي الطبيب الشرعي‮.. ‬قال‮ ‬يهون من شأن الموضوع‮:‬
‮- ‬وماذا في ذلك؟ هل نقصت قطعة من أسطوانات الرجل؟
‮- ‬تقريباً‮! ‬لقد انتفعت بها واستهلكتها،‮ ‬بدون إذنه‮.. ‬ودخلت حجرته بدون علمه‮! ‬استهلكت متاعاً‮ ‬مملوكاً‮ ‬له‮.. ‬إنه نوع من الاختلاس‮.. ‬تصور‮.. ‬وكيل النيابة هو الذي‮ ‬يقوم بهذا التلصص والاختلاس؟‮!‬
فأطرق الطبيب‮ ‬يفكر قليلاً،‮ ‬ثم قال‮:‬
‮- ‬لم تتح لي الفرصة‮! ‬لقد وجدت نفسي فجأة أمام الإغراء وجهاً‮ ‬لوجه‮!‬
‮ – ‬في الواقع أن التصرف من حيث الشكل منتقد‮.. ‬لكن من حيث الجوهر فهو عمل مشروع‮.. ‬إن كل ما أردت أنت هو الاستمتاع الفني‮.‬
‮- ‬وأي استمتاع‮!‬
قلتها وأنا أتذكر تلك النشوة التي ما‮ ‬غمرني مثلها قط‮.. ‬لماذا تضاعف حجم تلك المتعة،‮ ‬وأنا أختلسها اختلاساً‮ ‬من حجرة ليست لي،‮ ‬وباب نصف مغلق،‮ ‬أتطلع من خلاله تطلع الخائف القلق؟‮! ‬أفضيت بهذا الشعور إلى صاحبي الطبيب،‮ ‬وسألته رأيه فقال‮:‬
‮- ‬حقاً‮! ‬ما أجمل اللحن الذي‮ ‬يأتينا عفواً‮ ‬من بعيد عبر نافذة الجيران‮! ‬هناك دائماً‮ ‬علاقة بين البعد والحجم‮.. ‬ففي الماديات‮ ‬يصغر الحجم مع البعد،‮ ‬ولكن العكس‮ ‬يحدث في المعنويات‮.. ‬إن المعنويات والروحيات‮ ‬يكبر حجمها مع البعد‮!‬
‮- ‬هل ترى أن أصارح هذا الأيرلندي بما حدث‮.. ‬وأشرح له قوة الإغراء التي أوقعتني،‮ ‬وأسأله الصفح‮!‬
‮- ‬يكون أحسن‮! ‬والأفضل من كل هذا أن تبادر فتشتري لنفسك فونوغرافيا وتقتني اسطوانات،‮ ‬حتى لا تعود مرة أخرى.. ‬وتصبح من أرباب السوابق‮!‬
‮- ‬فكرة‮..‬
لفظتها باقتناع وقوة،‮ ‬وقد صممت على تحقيقها‮.. ‬وما وافى اليوم التالي حتى كانت خطة التنفيذ قد اكتملت‮..‬لن أنتظر حتى أذهب إلى القاهرة‮.. ‬فلست أدري متى أذهب‮.. ‬وليس من السهل طلب اجازة‮: ‬لابد أن‮ ‬يكون في هذا البندر محل لبيع الفونوغرافات‮.. ‬من الذي‮ ‬يدلني؟ لا أحد‮ ‬غير ذلك المخلوق العجيب‮! ‬إنه فنان هو أيضاً‮.. ‬فنان بالروح والسليقة والاستعداد،‮ ‬وإن كان فنه لا‮ ‬يتخذ شكلاً‮ ‬ولا إطاراً‮.. ‬إنه‮ (‬سيد دومة‮) ‬ماسح أحذية النيابة والمحكمة‮! ‬تلك الشخصية التي أصبحت جزءاً‮ ‬لا‮ ‬يتجزأ من الهيئة القضائية في هذا البندر‮.. ‬إنه الدليل القضائي الحي المتحرك في هذه المدينة‮.. ‬من أراد التحري عن أي معلومات خاصة بأحد القضاة أو أعضاء النيابة أو المكتبة والموظفين،‮ ‬فما عليه إلا أن‮ ‬يسأل‮ (سيد دومة‮) ،‮ ‬فيقول لك‮: ‬فلان بك القاضي أو عضو النيابة أو فلان أفندي كاتب الجلسة أو سكرتير التحقيق،‮ ‬كان هنا سنة كذا،‮ ‬وطباعه كيت،‮ ‬ومن عاداته أنه‮ ‬يجلس في المكان الفلاني في الساعة الفلانية،‮ ‬ويحب فلاناً‮ ‬ويكره فلاناً‮ ‬ويفضل هذا النوع من الطعام أو الشراب،‮ ‬ويدخن هذا الصنف أو ذاك من السجاير‮.. ‬وهكذا،‮ ‬وهكذا‮.. ‬ولكن القيمة الحقيقية لسيد دومة هي أنه قاضي الحاجات كلها لكل الموظفين وحلاّل المشكلات‮.. ‬إذا أردت شيئاً‮ ‬مستعصياً‮ ‬أو نادراً‮ ‬فاطلب إلى سيد دومة‮ ‬يبحث لك عنه ويأت بالطلب في ساعتين‮.. ‬وإذا كسر لك متاع أو آلة أو عدة ساعة أو وابور جاز أو طاحونة بن،‮ ‬وماكينة خياطة أو دراجة أو قلم حبر،‮ ‬فهو الذي‮ ‬يقوم بإصلاحها بنفسه‮.. ‬عبقريته في إصلاح الآلات‮- ‬خاصة الدقيقة‮- ‬تكاد تكون قد ولدت معه،‮ ‬بدون دراسة ولا تعليم‮.. ‬إن درجة تعليمه لا تتعدى فك الخط‮.. ‬إنه‮ ‬يكتب ويقرأ ويفهم كل شيء‮.. ‬ولا أحد‮ ‬يعرف أين تعلم هذا‮.. ‬إن كل ما في الصحف من أخبار وحوادث‮ ‬يعرفها في المحطة بعد وصول قطار الجرائد‮.. ‬وفي أقل من ساعة‮ ‬يكون قد مر على مكاتب الموظفين‮ ‬يخبرهم بما‮ ‬يهمهم منها،‮ ‬وما‮ ‬يتعلق على الخصوص بحركة الترقيات والتنقلات‮.. ‬وهو‮ ‬يدخل كل صباح على أكبر موظف وأصغر موظف على السواء،‮ ‬بدون استئذان‮.. ‬ما‮ ‬يشعر الواحد منا إلا وحذاؤه بين‮ ‬يدي سيد دومة،‮ ‬يمسحه في صمت بالورنيش المناسب،‮ ‬ولا‮ ‬يتكلم إلا إذا طلب منه الكلام،‮ ‬أو أنس فراغاً‮ ‬من الموظف‮.. ‬ومحال أن تبدو منه حركة أو لفظ‮ ‬يعطل أو‮ ‬يضايق المشغول بالعمل‮.‬
جلست إلى مكتبي ذلك الصباح منتظراً‮ ‬مجيء سيد دومة،‮ ‬حلاّل المشكلات‮.. ‬وما أن دقت ساعته المعينة حتي ظهر من الباب بعد طرقه طرقاً‮ ‬خفيفاً‮ ‬كعادته دون انتظار الإذن بالدخول‮.. ‬ومشى مشيته الخفيفة كمشية القط الأليف،‮ ‬وقبع بجوار الحذاء وشمر كم سترته‮- ‬إذا كانت تسمي سترة‮- ‬فإن ملابسه الغريبة لا‮ ‬يمكن أن توصف‮.. ‬فهي خليط عجيب من سروال أو بنطلون قديم لا‮ ‬يعرف مصدره مع سترة شبه عسكرية مما كان‮ ‬يتسلل من معسكرات جيوش الاحتلال،‮ ‬قد رقعت ترقيعاً‮ ‬أخرجها عن الصفات العسكرية والمدنية جميعاً،‮ ‬وأصبحت لها صفة خاصة بسيد دومة وحده،‮ ‬وفوق رأسه‮ ‬غطاء صوف أشبه بالطاقية،‮ ‬ولكنه ليس قطعاً‮ ‬بالطاقية‮.. ‬إنه شيء سمعت بعضهم في البندر‮ ‬يسميه(‬كلبوش‮).‬
وقد اتخذ هو أيضاً‮ ‬صفة الشخصية المستقلة عن أي رداء آخر للرأس،‮ ‬إنه رداء رأس سيد دومة وكفى‮!‬
جعل‮ ‬يمسح حذائي دون أن‮ ‬ينبس بحرف أو‮ ‬ينظر إليّ‮.. ‬ولكنه فوجئ ولاشك بصوتي‮ ‬يقول له باهتمام‮:‬
‮- ‬اسمع‮ ‬يا سيد‮ ‬يا دومة‮! ‬تقدر تشتري لي فونوغراف؟
‮- ‬فونوغراف بنفير؟
‮- ‬نفير؟ لا‮.. ‬لا‮.. ‬فونوغراف حديث بشنطة‮!‬
‮- ‬حاضر‮!‬
أجاب بهذه الكلمة الواحدة‮.. ‬ثم مضى وعاد بعد قليل‮ ‬يعلن إليّ‮ ‬أن طلبي موجود‮.. ‬ولكنه‮ ‬يستحسن أن أذهب لأختار بنفسي ما‮ ‬يعجبني‮.. ‬ودلني على الدكان،‮ ‬وقادني إليه‮.. ‬فإذا أنا في دكان بقال‮.. ‬فالتفت إليه منتهراً‮:‬
‮- ‬بقال؟‮! ‬دكان بقال؟‮! ‬أنا قلت لك فونوغراف؟ أنت فاهم كلمة فونوغراف‮ ‬يعني إيه؟‮!‬
فنظر إليّ‮ ‬نظرة كلها عتاب،‮ ‬وقال‮:‬
‮- ‬وانا جاهل للدرجة دي‮ ‬يا بيه؟
وأسرع إلي صاحب الدكان،‮ ‬وحادثه قليلاً‮.. ‬فإذا به‮ ‬يكشف عن ستارة في ركن من أركان المحل‮ ‬،‮ ‬ظهر خلفها صف به عديد من أجهزة الفونوغراف مختلفة الأنواع،‮ ‬من قديم ذي نفير إلى حديث بحقيبة‮.. ‬فعجبت‮.. ‬ثم علمت بعدئذ أن هذا المحل‮- ‬هو أكبر محل بقالة في المدينة‮- ‬لا‮ ‬يبيع البقالة وحدها،‮ ‬بل‮ ‬يعرض أصنافاً‮ ‬أخرى مختلفة‮: ‬من أقمشة جوخ،‮ ‬إلى أحذية،‮ ‬إلى جرادل،‮ ‬ومكانس،‮ ‬وفونوغرافات وأسطوانات‮.. ‬وأخذت الفونوغراف الذي أعجبني ولم‮ ‬يكن ثمنه‮ ‬يجاوز الجنيهين،‮ ‬لأن الطلب قليل في الريف لمثل هذا الطراز‮.. ‬الكل هنا‮ ‬يفضل الطراز القديم ذا النفير الضخم الذي‮ ‬يملأ العين‮! ‬وكان لابد لي معه من بضع اسطوانات،‮ ‬للتجربة على الأقل‮.. ‬فعرض عليّ‮ ‬البائع أن أتخير من بين كوم من الأسطوانات القديمة مختلفة الأحجام‮.. ‬فجعلت أقلب فيها‮.. ‬لم أتوقع بالطبع أن أعثر من بينها علي موزار أو بيتهوفن أو هايدن‮.. ‬وجدت المرحومين الشيخ‮ (‬يوسف المنيلاوي‮ ‬والشيخ‮ ‬سيد المصطفى ‬و عبدالحي افندي حلمي‮) .. ‬فانتقيت للأول‮: “‬فتكات لحظك أو سيوف أبيك‮” ‬وللثاني‮ “‬الحب صبحني عدم‮” ‬وللثالث‮ “‬حلالي بلالي وافاني الحبيب‮”.‬
عدت إلى النزل وخلفي سيد دومة‮ ‬يحمل ما اشتريت‮.. ‬وما أن وصلت إلى حجرتي حتى بادرت إدارة الفونوغراف الجديد باسطوانات أولئك الأعلام في فن‮ ‬غنائنا العربي‮.. ‬وعجبت أن أذني لم ترفضهم،‮ ‬بل استقبلتهم هم أيضاً‮ ‬بالترحاب‮.. ‬ما أبعد الشقة حقاً‮ ‬بينهم وبين هايدن وموزار وبيتهوفن‮.. ‬بل إن أي مقارنة بين هؤلاء وأولئك تعتبر ضرباً‮ ‬من المستحيل‮.. ‬فهذان لونان لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يتقابلا‮.. ‬لأن منطق كل منهما‮ ‬يقوم على أساس مختلف‮.. ‬ومع ذلك استطعت لدهشتي أن أحب هذا وذاك‮.. ‬ثم زالت الدهشة الأولى وبدأت أفسر نفسي‮.. ‬أفسر ظاهرة تقبلي للنقيضين‮.. ‬ما من تفسير إلا أني تذوقت كلاً‮ ‬منهما بطعمه هو لا بطعم الآخر‮.. ‬وقسته بمقياسه لا بمقياس الآخر ولا بمقياس واحد للاثنين‮.. ‬إن اقتناص أنواع الجمال في الفن كاقتناص أنواع السمك في البحر‮! ‬كل له شبكة خاصة‮.. ‬فإذا استخدمت شبكة واحدة للجميع أفلتت منها أنواع أخرى كثيرة‮.‬
ولم تتم فرحتي بالفونوغراف الجديد‮.. ‬فلم أكد أديره في اليوم التالي بحضور صديقي الطبيب على اسطوانة‮ (‬فتكات لحظك‮..) ‬ولم‮ ‬يكد‮ ‬يعلو صوت الطبيب صائحاً‮: ” ‬الله الله‮ ‬يا شيخ‮ ‬يوسف‮ ‬يا منيلاوي‮” ‬ولم‮ ‬يكد‮ ‬غناء المطرب الكبير‮ ‬يلعلع بمطلع القصيدة،‮ ‬حتي سمعنا حشرجة أخذت تمتد وتستطيل حتى أصبحت أنيناً‮ ‬خافتاً‮ ‬بوقوف الإبرة وقوفاً‮ ‬تاماً‮.. ‬ماذا حدث؟ لقد انكسر‮ (‬الزمبرك‮)!‬
ولعنت الفونوغراف وماركته وبائعه والذي كان السبب،‮ ‬وهو سيد دومة بجلالة قدره‮.. ‬وأرسلت في طلبه في الحال فحضر‮.. ‬فابتدرته صائحاً‮:‬
‮- ‬الحق عليّ‮.. ‬أنا الغلطان‮.. ‬اشتري فونوغراف من محل بقالة؟‮!‬
فقال مأخوذاً‮:‬
‮- ‬حصل خير؟‮!‬
فأشرت له إلي الفونوغراف‮:‬
‮- ‬حصل‮ ‬يا سيدي أن‮ (‬الزمبرك‮) ‬مصنوع من المكرونة،‮ ‬لا من الحديد،‮ ‬انكسر بعد‮ ‬يوم وليلة‮.. ‬تفضل عاين‮! ‬فأخرج من جيبه مفكاً‮ ‬صغيراً‮ ‬يحمله في جيب سترته الواسع مع بعض آلات وأدوات دقيقة‮ ‬يحملها دائماً‮.. ‬وجعل‮ ‬يفك‮ ‬غطاء الفونوغراف حتى كشفه ونظر داخله وأخرج الزمبلك المكسور‮.. ‬ونظر إليّ‮ ‬وقال‮:‬
‮- ‬حاجة بسيطة‮!‬
وغادرنا في سرعة البرق قبل أن نتمكن من استمهاله أو استيضاحه،‮ ‬وغاب مقدار نصف الساعة،‮ ‬ثم عاد إلينا ومعه شريط‮ (‬خردة‮) ‬طويل رفيع من المعدن أو النحاس،‮ ‬لا أحد‮ ‬يدري من أي شيء خلعه أو انتزعه،‮ ‬استطاع أن‮ ‬يلويه ويلفه على بعضه لفاً‮ ‬وثيقاً‮.. ‬سألناه‮:‬
‮- ‬ما هذا؟
فقال‮:‬
‮- ‬زمبرك عمولة‮!‬
وأخذ‮ ‬يضعه في جوف الفونوغراف،‮ ‬ويثبته بالمفك،‮ ‬ثم ركب الغطاء،‮ ‬وانتهى من المهمة،‮ ‬ونحن ننظر إليه دون اعتراض على شيء مما‮ ‬يفعل‮.. ‬فقد كنا‮ ‬يئسنا منه ومن فونوغرافه‮.. ‬ولم نر جدوى في الكلام‮.. ‬ونفض‮ ‬يديه ثم مسحهما في سترته واستأذن للانصراف قائلاً‮: “‬خلاص‮!” ‬ونظرنا إلى الفونوغراف متشككين‮:‬
‮- ‬أممكن لهذا الشيء أن‮ ‬يدور بعد الآن؟‮!‬
فرد في ثقة واطمئنان‮:‬
‮- ‬جربوا‮!‬
وجربنا‮.. ‬وإذا الفونوغراف‮ ‬يدور حقاً،‮ ‬وعلى أحسن ما‮ ‬يكون‮!.. ‬بل حدث ما هو أعجب‮: ‬لقد ظل هذا‮ (‬الزمبرك الخردة‮) ‬صناعة سيد دومة متيناً‮ ‬قوي النبض،‮ ‬قوة قلب فتى صلب لا‮ ‬يضعف ولا‮ ‬يشيخ مدى عشرين عاماً‮ ‬تنقل فيهما معي من بلد إلى بلد ومن مصير إلى مصير،‮ ‬وأسمعني خلالها من روائع السيمفونيات والمؤلفات الغربية،‮ ‬ولوامع البشارف والأغاني في الموسيقي الشرقية ما لا‮ ‬يقع تحت حصر‮.. ‬إلى أن اقتنيت جهاز راديو شغلني وألهاني وأنساني وجود الأنيس القديم،‮ ‬فإذا هو‮ ‬يتنحى في تواضع،‮ ‬ويفسح الطريق للجهاز الجديد على استحياء‮.. ‬وإذا هو ذات‮ ‬يوم قد اختفى،‮ ‬لا أدري والله كيف‮! ‬اختفى في صمت وهدوء،‮ ‬واختفت معه عِشرة دامت عشرين عاماً‮.‬
كلما ذكرته،‮ ‬ذكرت معه سيد دومة،‮ ‬وذكرت الطبيب الشرعي،‮ ‬وذكرت ذك النزل في ذلك البندر من بنادر الأقاليم،‮ ‬بل ذكرت فوق كل ذلك أن في الدنيا أشخاصاً‮ ‬تجري في دمائهم روح الفن وهم لا‮ ‬يشعرون‮!‬
_________
*(أخبار الأدب)

شاهد أيضاً

كتاب “في حديقة الملك، سيرة مكان”: سيرة مكان؟… سيرة وطن!

(ثقافات) كتاب “في حديقة الملك، سيرة مكان”: سيرة مكان؟… سيرة وطن!   * د. خالد …

ابن عربي الحائر بين الفتوحات والمنقولات – فيديو

(ثقافات) ننشر تالياً المحاضرة الكاملة للباحث والروائي الأردني يحيى القيسي عن “ابن عربي الحائر بين …

حوار مع الباحث والروائي يحيى القيسي حول تجربته الوجودية

الباحث والروائي يحيى القيسي حول تجربته الوجودية: رواياتي تشكل خُماسيّة عِرفانيّة ومَعرفيّة… وتطرح الأسئلة الكبرى  …

في ظلال المئوية “تل الذّخيرة” ملحمة تستحق مكانة عالية في الذاكرة الشعبية والمخيال الحكائي للأردنيين

مجدي دعيبس مع حلول المئوية الأولى للدّولة الأردنيّة تتنازعنا أفكار ومواضيع شتّى للحديث عنها في …

في مئوية الدولة: الثقافة مرتكز أساسي للتأسيس والنهضة

( ثقافات ) مجدي التل  فكرة بداية مأسسة الحالة الثقافية والابداعية في الدولة الاردنية الحديثة؛ …

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *