صنع الله إبراهيم..المتنبئ في تلك الرائحة


*ترجمة:أحمد فاضل

في مايو / أيار عام 2011 وبعد ثلاثة أشهر من سقوط نظام حسني مبارك عاد إلى الظهور مجددا على الساحة الثقافية الروائي المصري المعروف صنع الله إبراهيم بعد أن منعت رواياته من التداول داخل مصر وفرض حصار حديدي على لقاءاته وأحاديثه وتعليقاته بسبب استفزازيتها كما كانت تصرح به دوائر إعلامه آنذاك ، فلم نجد حيال ذلك الظهور سوى التوجه للقائه لمعرفة رأيه في كل ما يدور في مصر على الساحتين السياسية والثقافية بعد أن وجدنا الإعلام يتسابق إليه للفوز بمقابلته . 

هو رجل نحيل الجسم في منتصف السبعينات أجاب خلال لقائنا به عن الأسئلة التي وجهناها إليه ، منها ما يخص العلاقة بين السياسة والأدب في هذا الظرف الإستثنائي الذي تمر به مصر ، ومنها ما إذا كان لديه مشروعا للكتابة عن هذه الإنتفاضة أم لا ، أجاب عنها بصورة متفرقة مع اعتراضه على بعضها : 
– الكتابة حول هذه الإنتفاضة سيتطلب قدرا كبيرا من البحث عن أسبابها ، وقد تستغرق كرواية وقتا طويلا ، لكنها بالتأكيد ستكون رواية جيدة حينما يتوفر لديك فهما راسخا من الماضي مع لحظة الحاضر والمستقبل ، وماذا سيحدث ، أو ما يمكن أن يحدث بعد ذلك ، كل هذا يتطلب وجود رؤية واسعة عنها .
إبراهيم كان قد كتب في وقت سابق عددا من الروايات التي يمكن أن نطلق عليها بالتاريخية نظرا لوقوعها في فترات وقف أمامها التاريخ خجلا مما حدث فيها حاول مؤلفها الوقوف على أحداثها زمانيا ومكانيا وبصورة تفصيلية كرواية ” وردة ” الصادرة عام 2000 وهي بانوراما مثيرة ورحلة عاصفة دموية أحيانا كثيرة ، امتدت من القاهرة إلى بيروت ومسقط وصنعاء وصلالة وعدن وصحراء الربع الخالي ، شارك فيها ملوك وثوار وسلاطين وشيوخ قبائل وعبيد ، قوميون وبعثيون وشيوعيون وناصريون ، عبر ثلاثة عقود من الآمال والأحلام والبطولات والهزائم والخيانات والخيارات الصعبة .
أما رواية ” العمامة والقبعة ” الصادرة عام 2008 فهي تستند إلى حقبة احتلال نابليون بونابرت لمصر سنة 1798 كما ورد عند الجبرتي وهو أحد أشهر المؤرخين المصريين على الإطلاق ، واصل فيها المؤلف منهجه في المزج بين الوثائقي والسردي والتاريخي والتخيلي وهو المنهج الذي ساد جميع أعماله الروائية السابقة بما يمثل خصوصية له في ساحة الرواية العربية ، يقدم إبراهيم في هذه الرواية قصة حب بين أحد طلاب الجبرتي وفرنسية تدعى بولين لسلي فوريه إبنة أحد قادة نابليون الذي وقف ضد هذا الحب بسبب عشقه لها أيضا ، إبراهيم يعتقد أن تلك الحملة وما رافقها من ثورة شعبية عارمة عليها قد بشرت بما حدث في ميدان التحرير بعد أكثر من قرنين من الزمان مع أن الأخيرة تختلف في ترتيباتها وحجمها ، لكنها بالتأكيد ليست ثورة فالثورة لديها برنامج عمل كامل وتغيير للواقع أو إزالة لطبقة حاكمة ، فالذي حدث هو انتفاضة شعبية كان مطلبها الأساسي هو ” تغيير النظام ” على الرغم من أنه لم يتضح بعد ما إذا كان هذا التغيير قد يتوقف على إزالة أبرز رموز النظام القديم ، أم أنه تغيير دائم لنظم متعاقبة قد تخل بالشروط التي جاءت بها الإنتفاضة ؟
أصبح إبراهيم وقت ظهوره ظاهرة أدبية تستحق الإعجاب على الرغم من أن كتاباته كانت غير صريحة المعنى ، لكنه لفت بها انتباه عدد كبير من كتاب القصة والرواية في مصر والعالم العربي ، أعماله لفتت كذلك أنظار النقاد فحفلت الصحافة بكتاباتهم حولها وقراءتهم لها ، وعندما رفض تسلم جائزة الرواية العربية وهي جائزة تمنح من قبل وزارة الثقافة المصرية في ظل حكم مبارك عام 2003 وقف بجانبه زميله الروائي علاء الأسواني مشجعا وداعما له ، فبدلا من تقديمه خطاب القبول عند حضوره لحفل توزيع الجائزة قال أنه يرفضها بسبب سياسات النظام العاجزة عن توفير سبل العيش الكريم لعدد كبير من الكتاب المصريين الذين سكنوا المنافي وبسبب الفساد المستشري داخل وزارة الثقافة ، من أجل كل ذلك لم يكن أمامه خيار سوى رفضه الجائزة التي كانت ستساعده في الحصول على منح عديدة من الحكومة لطبع أعماله التي كان سابقا محروما منها باعتباره منشقا لانتمائه إلى الحزب الشيوعي في فترة شبابه ، أما رواياته الصادرة في الثمانينات والتسعينات فقد نشرها بصورة مستقلة بدلا من أن تمولها الدولة في عهد مبارك ، كلمته تلك جعلت منه بطلا خصوصا بين أوساط الكتاب المصريين الشباب .
إبراهيم عاد متحدثا عن شكوكه التي اختلطت بمتظاهري ميدان التحرير ، فقد كان إحساسه بأن هذه الإنتفاضة لم تكن ثورة تماما بعدما رأى هيمنة المشير طنطاوي والمجلس الأعلى للقوات المسلحة السيطرة على المتظاهرين الذين كانوا بلا قيادة تذكر ، وحتى إذا ما كانت هذه القيادة موجودة فعلا فهي متنافرة سياسيا ، موقفه ذاك هو نفسه لم يتغير بعد ثمانية عشر شهرا من حكم الأخوان الذي اعتبره ثورة مضادة واجهاضا حقيقيا لإرادة الجماهير ، كلمات إبراهيم تلك كانت تبدو بمثابة من يتنبأ بشيء يراه ويلمسه .
هذه ليست هي المرة الأولى التي يشكك فيها إبراهيم بما يجري على الساحة المصرية من مستجدات والتي جعلته أشبه بكاهن يتنبأ حولها وبها ، فقد كانت روايته الأولى ” تلك الرائحة ” والتي ترجمت إلى الإنكليزية مؤخرا بعدما كان نشرها لأول مرة عام 1966 ، يروي فيها قصة سجين سياسي أثار شعورا بالإستغراب وهو يعود إلى الحياة المدنية بعد اثني عشر عاما قضاها في سجون النظام الناصري عقب ثورة 23 يوليو / تموز 1952 ( هنا أيضا كان غير مستقر في مسألة ما إذا كان ذلك التغيير كما يصفه انقلاب أم ثورة ؟ ) ، مع أن ناصر من دون شك كان ذا شخصية سياسية الأكثر شعبية في الشرق الأوسط بسبب وقوفه بوجه ” الإمبريالية الغربية ” وهي التسمية التي كان يطلقها دائما على الغرب بعد حرب السويس عام 1956 على خلفية تأميم قناتها ، وأصبح المتحدث الرسمي للقومية العربية آنذاك ومن أشد أعداء الصهيونية ، ومن المؤيدين والمتحمسين للثورات العربية الناشئة في العراق وسوريا واليمن ، كما كانت لخطاباته الحماسية سحرها بالتأثير على الجماهير حتى أصبح ملهما للكثير من ساسة العرب ، إبراهيم ومن خلال مجريات الرواية تنبأ بانحسار موجة ناصر الكاريزمية وتلاشيها ، جاء ذلك بشكل مباشر على لسان الراوي الذي بين أن شعبية النظام كانت على المحك ولولا اعتماده جزئيا على قمعه المعارضة له لما استطاع الاستمرار ، ومعظم الشخصيات فيها لم تعد مهتمة بالسياسة بقدر اهتمامها بأخبار نجوم السينما والبضائع الفاخرة القادمة من بيروت وحتى أخبار الجنود العائدين من جبهة اليمن تم تجاهلها وهم الذين أرسلهم ناصر لتعزيز ودعم قوات المشير عبد الله السلال في حربه ضد الإمام البدر والتي أعقبتها حربا أهلية شرسة انتصر فيها السلال بفضل دعم ناصر له بينما كانت مصر تغرق حينها بمياه الصرف الصحي بسبب بيروقراطية النظام .
بعد عام من نشر رواية ” تلك الرائحة ” تحقق ما تنبأ به مؤلفها من هزيمة الجيش المصري وسيطرة اسرائيل على سيناء ، هذه الهزيمة كانت قد هزت الجماهير المصرية بعنف وهي التي اعتادت على الإنتصارات من خلال خطابات زعيمها ناصر وموضحة بصدق ما كان يتوقعه إبراهيم من سقوط ذلك النظام وانهياره .
المدهش في الأمر هو كيف يمكن أن نفسر ما توصل إليه إبراهيم في روايته لكل هذه الاستنتاجات مع أنها جاءت بإسلوب متقشف وبصفحات قليلة ، يقول عنها أنه بدأ باستحضار مدينة كبيرة كالقاهرة تجول فيها ، استقل خلالها الترام والحافلات وسيارات الأجرة ومترو الأنفاق ، زار فيها الأهل والأصدقاء الذين يمثلون أطيافا مختلفة ، طبقات متوسطة ، بيروقراطيين ، أصحاب رواتب عالية وبرجوازيين وحتى رجال دين ، ضباطا وجنود وصحفيين ، ورجال شرطة وسجناء ، كلهم شهود على ما جرى في مصر الناصرية تطلب منه وعلى لسان راوي الرواية وعبر خمسين صفحة أن تشكل رؤيا شاملة لعب الخيال فيها دورا كبيرا في جعلها تأريخا حقيقيا لحقبة زمنية سادتها انهيارات كبيرة .
هذه الرؤية ليست ثمرة إلهام فقط ، بل هي نتيجة للبحث الدقيق ووثائق حقيقية كان قد وقف عليها ما يلفت انتباهنا إلى الجهد المبذول منه في البحث في الأرشيف الخاص بهذه الأحداث ، 
” تلك الرائحة ” رواية تظهر لنا أن إبراهيم كانت لديه خطة عمل كاملة سار عليها منذ إقامته في السجن الصحراوي حيث كان قد قضى فيه خمس سنوات من عام 1959 حتى 1964 عاشها جنبا إلى جنب مع العديد من الشيوعيين المصريين الذين اتهمتهم السلطة الناصرية آنذاك بتعاونهم مع الشيوعيين في العراق نهاية عام 1958 .
في السجن الصحراوي الجنوبي الذي كان يقع على مقربة من الحدود مع السودان دأب إبراهيم على قراءة فرجينيا وولف والفيلسوف والكاتب المجري الماركسي جورجي لوكاش وكان يدون ملاحظات واسعة حول قراءاته تلك ، وكذلك على بعض جوانب الحياة اليومية في السجن حيث قال انه نقل هذه الملاحظات على أوراق السكائر التي تم تهريبها فيما بعد خارج أسواره وهي توضح طموحاته لكتابة رواية أظهر فيها مدى المأزق الناصري الكبير في تدخله بكل مناحي الحياة المصرية والذي أنهى الدور النضالي لمجموعة كبيرة من الثوار الذين عملوا على قيام الثورة وما تبقى حقائق واضحة لعبادة الشخصية التي ستنهار لاحقا كما كان يتوقع .
الأخوان والشيوعيون تقاسموا نفس الزنازين وعانوا ما عانوا من التعذيب ، هذه بعض ما كانت تلك الأوراق تحتويه والتي مر على جزء منها في روايته ” تلك الرائحة ” حيث أضاف لنا بالقول أن الحزب الشيوعي المصري كان قد جذب عددا من المثقفين إلى جانبه حيث كان التنافس الإيديولوجي على أشده بينهما ، لكن الأخوان وهم الأشد خطورة على النظام كانوا أكثر حركة ونفوذا داخل السجن بسبب الدعم الخارجي لهم حتى ان ثلاثين مجلدا من تفسير القرآن الذي كان قد وضعه سيد قطب الأب الروحي لهم أصبح يدرس داخل السجن مع كل ما يحتاجه الأخوان فيه من طعام وسكائر ، كانوا أحسن حظا منا مع أننا جميعا كنا نتقاسم تأريخا من القمع والسجن جعل العديد من اليساريين يوجهون الإنتقادات لهم والتي لها ما يبررها حتى في السبعة أشهر الأولى من حكم مرسي .
أما الحكومات العسكرية التي تعاقبت على حكم مصر فقد بذلت قصارى جهدها لتفاقم الشكوك المتبادلة بين العقيدتين ، ناصر سجن كلا منهم بينما استخدم نظام أنور السادات كوادر الأخوان للقضاء على اليساريين في الجامعات (وهي واحدة من السياسات المحببة لمثيري الحرب الباردة من العسكر الذين حكموا مصر ) ، وبحلول نهاية السبعينات كان النظام قد تخلص من الجميع وتحييدهم لصالح الإتحاد الإشتراكي العربي ، إلا قلة من المثقفين رفضوا ذلك وظلوا أوفياء لمبادئهم منهم محمود أمين العالم وصنع الله إبراهيم وآخرون ، وبنفس الطريقة تميز أسلوب الأخوان في الحكم خلال الفترة القصيرة التي قضوها في السلطة حيث عرف أسلوبهم بالتآمر وعدم الإلتفاف لرغبات الجماهير التي سعت للتغيير .
في نهاية مقابلتنا له أشار إبراهيم إلى فرضية أن نحصل على البرلمان الذي سيمثل مختلف الإتجاهات السياسية الموجودة في البلاد وانتخاب رئيس جديد خلال هذه العملية فهو لا يمكن أن يمثل انتصارا بالنسبة له نظرا لطبيعة الحياة البشرية ونظرا لمدى تطور التناقضات التاريخية ، هذا الانتصار سيخلق تناقضات أخرى في غضون خمس أو عشر سنوات ، وهذه تؤدي إلى صراعات أخرى ، ثورات من نوع آخر وهلم جرا .
صنع الله إبراهيم كان واحدا من عدد كبير من المثقفين الذين شاركوا في الإعتصامات أمام وزارة الثقافة احتجاجا على سياسات الأخوان قبل أيام من استيلاء الجيش على مقدرات البلاد ، والآن لا أحد في مصر هو أكثر شعبية من القائد العام السيسي على الرغم من قسوته ، لكن ليس من الواضح ما إذا كان المصريون سيقبلون العيش مرة أخرى تحت حكم العسكر بعد أن كانوا قبل فترة ليست بالطويلة قد علقوا دمى تمثل المشير طنطاوي في ميدان التحرير إحتجاجا على سياسة العسكر نفسها ومن المؤكد أن هناك المزيد من المفاجآت التي ينتظرها الشارع المصري على أحر من الجمر .
_______
* عن: نيو يوركر الأمريكية(المدى)

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *