الذات الشظايا في «ثلج أبيض بضفيرة سوداء»


* د.أحمد عزّاوي

يحفل المشهد الشعريّ العراقيّ الحديث بتجارب جديدة تختط لصوتها آفاقاً للاختلاف والتجاوز، تخرج عن مسلمات التنظير وحدوده التوضيحيّة، فما قطعته قصيدة النثر العراقيّة منذ الثمانينيات وحتّى الآن، سمح لتنويع هائل أن يتقدّم بنماذجه الجديدة التي تبتكر سماتها وبنياتها، فيأتي النقد بمنهجياته وأدواته وإجراءاته، ليتجدّد بفعلها وتأثيراتها . 

يعمد صفاء ذياب في مجموعته الشعريّة «ثلج أبيض في ضفيرة سوداء» إلى الابتعاد عن صرامة البنية ورؤيوية الدلالة الشعريّة وهو ما طبع شعر الحداثة الذي لم يعد يلبي حالة الانفتاح الوجوديّ والثقافيّ، وضراوة التجربة الحياتية التي تتخطى المعايير المسبقة، وهكذا يمكن أن تلتقي قصائد هذه المجموعة مع بعض طروحات ما بعد الحداثة عن حضور الذات الفاعلة بإزاء غياب الاهتمام الجمالي التجريدي باللغة، والاعتماد على تشظية النماذج الشعريّة والتعبيريّة عوضاً عن التماسك التقليدي الذي حاولت فيه تجارب الحداثة الشعريّة العربيّة أن تكون امتداداً للشعر القديم عبر تبني فكرة النظام الشعريّ والرؤيوي، الذي تغادره مجموعة صفاء ذياب باتجاه تمثيل الذات بوصفها شظايا وليست أمثولة للكينونة المتماسكة، وهو ما يتمظهر ابتداءً في العنوان الذي يحمل علامتين مركبتين ومتضادتين تقف كلّ منهما في مدارين مختلفين، فالثلج أبيض وهو وصف مألوف ومباشر، ويتصل بالمغترب النرويجي المؤقت للشاعر، لكنّه يأخذ مساحة شاسعة بمقابل ضفيرة سوداء مفردة لامرأة ما مستعادة، وهو ماثل في غلاف المجموعة الفوتوغرافي، إذ يحتل بياض الثلج ثلاثة أرباع الصورة، فيما يبدو اللون الأسود المشابه للون الضفيرة بعيداً في نهاية اللقطة، وربّما يضعنا هذا بمواجهة ضفيرة لامرأة جنوبية تلوح في شاشة الذاكرة.
ومن الواضح أن هذه التشظية الذاتية تستكمل إعلانها الشعريّ بواسطة عناوين القصائد والعناوين الفرعية والعتبات التي تسبق متون النصوص الشعرية، فنقرأ على نحو واضح عناوين وعتبات من مثل: (الحرب ..في طبعتها الأخيرة)، و(سأفقأ عينيك أيها القمر لأنك الشاهد الوحيد على هذه الآلام)، و(جسد تعتقه الخسارات)، و(ملح من دموع الملائكة)، و( وحيداً في هذا الظلام)، و(ظل واجم)، و(ها أنني أتقصى الشوارع بأصابعي، وأحس المسافة طيفاً ثقيلاً ينام كسلحفاة)، و(كمن يخرج من الحلم)، و(لا ظل لي)، و(أمي التي كانت هناك)، و(تنفلت كأنها ريح تائهة هذه الحيوات التي ترتمي كأجسادنا)، و(انهيار)، و(يأس)، وهي بمجموعها تنطوي على محمولات إشارية تتصل بهشاشة الذات، وبمتخيلات قاسية، وفضاءات معادية، وباستذكارات مؤلمة، أو حالات خسارة وجودية.
وتأتي القصائد امتداداً لهذه التعددية في تمثيل تجربة الوجود التي تدحض وحدة التجربة الشعرية، فثمة قصائد ذاتية خاصة، نقرأ مثلا من قصيدة « أحلام» :((كلّ يومٍ لي أحلامٌ على هذه الأرضِ// لكنّني كلّما صحوتُ//خانتني الذاكرةْ))، وقصائد ذاكراتية تمنحها حركة الزمان ومفاعيلها في الشخصيات بعداً درامياً، من مثل قصيدة «أمي التي كانت هناك»: (في بادرة منها، شجعتني أمي على النوم بعيداً عن الاطفال المتسخين في الغياب// لأنّي ومذ حاولت اجتياز الرابعة، منحني الله لعنة اليتم، فلم أبك حتى الآن// هذا ما شغل أمي وقتها، وسألت كل نساء الحي كيف تميل الثام عن دموعي))، وقصائد مشهديّة تنم عن ولع تصويري بالظواهر والتفاصيل، منها قصيدة (رجل يلتحم بالزجاج الخارجي بحجة تنظيفه)، وقصائد تشذ عن هذه الشظايا التعبيرية، وتتمثل بقصائد القسم الأخير المعنون ( أغنيات سرية)، وهي قصائد ذات مزاج حلمي ووجداني يقارب تجربة الحب على نحو متماسك ومؤثر، نقرأ في قصيدة (أجساد): ((الريحُ عاتيةٌ جداً هذه الليلةَ//لنقفْ أمامَ الريحِ//أنا وأنتِ//كبابٍ من ضفتين))، لكن هذه الأغنيـات تبقى محدودة مقارنة بالقصائـد السابقة التي تحتل مساحة كتابية تستحوذ على خطاب هذه المجموعة الشعريّة الآسرة في عرض سطوحها الإنسانية المتداخلة البراقة التي لا تحجبها ظلال الرموز.
__________
*(الصباح الجديد)

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *