أنا كمان فلسطيني


*زياد خداش

في صيدا لا تتكرر دهشتك مرتين، حين تواصل فضفضات الحنين والفضول الوطني:

«إحنا من فلسطين» تقول لشخص تجلس قربه في مقهى فيجيبك على الفور «أنا كمان من فلسطين»، تدخل سوبر ماركت لتشتري علبة سجائر، ومن باب الرغبة في الألفة، تقول لصاحب السوبر ماركت «أنا من فلسطين» فتجحظ عيناه وهو يقول لك «أنا زوجة أخي من فلسطين»، تجلس مع أصدقائك في سيارة أجرة، تدردش مع السائق في حوار يعرف من خلاله أنكم من فلسطين، فيأتي كلامه جميلاً وحميمياً طيباً «أنا جوز أختي فلسطيني»، كل هذا يحدث فقط في صيدا، صيدا التي لا يحتاج فيها المرء إلى معرفة أيهما فلسطيني وأيهما لبناني من هؤلاء المارة الذين يمرون على الرصيف، تداخلت اللهجتان حد عدم القدرة على التمييز بينهما، وذابت المشاعر المشتركة تجاه قضايا عديدة، إذ نستطيع أن نقول إن صيدا صارت مدينة «فلسلبنانية».
سبعة أيام أمضيتها مع زملائي الثلاثة بـ«دير المخلص» في مدينة جون قرب صيدا، نتواصل بالأحلام والذكيريات والحكايات والهواجس المستقبلية، مع أصدقائنا اللبنانيين في مخيم صيفي، أشرفت عليه مؤسسة الحريري، بالاشتراك مع جمعيات أو مؤسسات فلسطينية ولبنانية، ليس لتمتين العلاقة اللبنانية الفلسطينية، فهي متينة جداً، بل للبحث عن صيغ أخرى للنضال الوطني المشترك ضد الاحتلال والفقر والفساد والاغتراب والفصائلية والطائفية.
وحده المجتمع الصيداوي الفلسطيني اللبناني من يقدم لنا النموذج الأصفى والأجمل والأدق في العالم العربي في موضوع التلاحم الشخصي الاجتماعي الوطني، صيدا تقدم لنا درساً وامتحاناً في آن واحد، درساً في العودة إلى الأصل، حيث كلنا شعب واحد بقيم وعادات وهواجس وأهداف واحدة، وامتحاناً لقدرتنا كأمة على اللحاق بقطار الحضارة ـ بعيداً عن الفوارق العرقية والإثنية والطبقية والطائفية ـ الذي فاتنا بمسافات طويلة، تركت «دير المخلص» بضجيج شبابه الرائعين وشاباته الرائعات ذات مساء، ووقفت على السور أشرب القهوة، وأتأمل البحر القريب، وأقول وأهمس لصيدا مرحباً، وأفاجأ بعكا البعيدة تقول «أهلا»: أفكر الآن في أصدقاء لبنانيين تركتهم هناك في صيدا: فايز عكاشة، نديم مجدوب، دانا علماوي، نبيل البواب، وآخرون، أفكر في نقاشاتنا آخر الليل وسط صمت الدير المدوي، حول العودة إلى فلسطين وبناء الدولة المدنية البعيدة عن الطائفية والسلفية، والخالية تماماً من أية ارتباطات مصلحية مع الامبريالية الاميركية والأوروبية، أفكر الآن حزيناً في صديقي طلال ذي 19 عاماً، الفلسطيني ابن مخيم «سبينة» وهو يحكي لي بارتجاف قصة هروبه إلى لبنان من المخيم مع والدته وأخوته، ونجاته بالمصادفة من رصاص القناصة، هي حكاية كبيرة، صيدا هي قصة شعبين، هما في الأصل شعب واحد، قررا أن يعطيا العالم درساً في العودة إلى الأصل، على أمل أن يعود العرب إلى أصولهم ذات صيدا كبيرة ويصبحوا شعباً واحداً موحداً.
__________
* (الإمارات اليوم)

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *