ديل كارنيجي يكسب أصدقاءه من جديد

(ثقافات)

ديل كارنيجي يكسب أصدقاءه من جديد

سمية الحاج *

 

في عالمنا تبدو الحقيقة ضيفاً غريباً ثقيلاً لا يحمل في جعبته ما ينتظره الناس من الغرائب و المفارقات التي عادة ما تجذب اهتمامهم فيستمعون لها و يتداولونها بشغف لتنتشر سريعاً دون التأكد حتى من صحة الخبر، و ذاك أن المتعة أكثر إثارة من الصدق الذي يبدو واقعياً حد الملل. أصبحت الشائعات في وقتنا هذا لعبة تبدؤها يدٌ خفية فتنتشر لتصبح الشغل الشاغل للناس، فإشاعة نهاية العالم عام 2012 مثلاً باتت حديثاً للناس و مصدر رزق للعديد من المواقع الإلكترونية. 

 

تنتشر الشائعات بين الناس لأسباب كثيرة، أهمها السبب نفسي، و الذي يتمثل برغبة الناشر جذب اهتمام الناس و استثارة فضولهم، و آخرٌ هو المصالح الشخصية و السياسية، فينشر شخص أو مجموعة ما خبراً كاذباً بهدف تمرير أيديولوجيات خاصة للناس، و قد يكون عدم تحري الدقة في نشر خبر- بوعي أو بلا وعي من الناشر- سبباً في تحويل الحقيقة إلى مجرد إشاعة. و هنا يبرز السؤال ، لماذا تنتشر الشائعات بسرعة أكبر من الأخبار الصادقة حتى أصبحت مرضاً اجتماعياً؟ الجواب ببساطة برأيي أن الأخبار الكاذبة مفبركة بشكل يثير انتباه المتلقي لاحتوائها في الغالب على مفارقات. خبر انتحار أهم و أشهر علماء تنمية الذات و تطوير النفس على سبيل المثال يحوي مفارقة تثير فضول المتلقي و تدفعه إلى نقل هذا الخبر لما فيه من غرابة , و ترديده في أي مقام مناسب. 

عجّت رياح المواقع الإلكترونية مثلاً بخبر انتحار عالم التنمية الذاتية و العلاقات الإنسانية الشهير ديل كارنيجي (1888- 1955) ، مما دفعني إلى الـتأمل كثيراً بسخرية القدر لأن باب النجار دائماً “مخلع”، ففي أحد الحوارات زعمت إحدى الزميلات بأن العلم بلا دين غير ذي جدوى و كان دليلها انتحار كارنيجي بعد كل ما توصل إليه من علم، فهو – برغم كل كتبه و نظرياته -خاوي الروح , و كان ذا استفزاز كاف ٍ للتأكد من خبر انتحار هذا العالم ، فبحثت عن اسمه في الإنترنت و تصفحت أشهر الموسوعات الإلكترونية فوجدت أن العالم قد توفي عام 1955 بسبب مرض تسمم الدم (بولينيا (uremia و عندئذٍ اعتقدت شائعة انتحاره انتشرت في الوطن العربي بسبب رفض مجتمعاتنا لعلم التنمية البشرية بعيداً عن الدين، و قد يكون هذا فعلاً أحد أسباب عدم تحرينا هذا الخبر حين سماعه، فهي فكرة تروق الكثيرين ممن يستدلون بها على عدم جدوى أي نوع من التفكير أو التواصل بمعزل عن الدين. 

ومن خلال التحري وصلت إلى أن الشائعة لم تكن حكراً على الوطن العربي فحسب، فـتتبعت سببا آخر عن سبب آخر وراءها فاتضح لي أن كتابه الشهير كيف تكسب الأصدقاء و تؤثر في الناس (1936) كان سبب هذا الاتهام. فقد رد عليه الكاتب ايرفينغ تريسلر بطريقة المحاكاة parody عام 1937 بكتابه كيف تخسر الأصدقاء و تُنفّر الناس، و انتحرهذا الكاتب – تريسلر- عام 1944، فاختلط الخبر على الناس الذين اعتقدوا أن كارنيجي هو المنتحر، و بذلك انتقلت المفارقة من شخص إلى شخص، و من بلد إلى بلد دون تحري الدقة. 

 

لم ينتحر كارنيجي إذاً و لم يخسر أصدقاءه القراء أو ينفرهم، بل كان حقاً مثال التفكير الإيجابي الذي دعا إليه، و ليس ما دعت إليه الشائعات التي كان كارنيجي ضحيتها و المستفيد منها , فشائعة انتحاره كانت أحد أسباب شهرته الواسعة إلى وقتنا هذا.

 

* كاتبة من الأردن

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *