رفيق الصبان: وداع رائد كبير


صبحي حديدي *

( ثقافات )


في إحدى مستشفيات القاهرة، بعيداً عن وطنه سورية، ومدينته الأثيرة دمشق، رحل رفيق الصبان (1931ـ2013)، الناقد السينمائي الكبير الرائد، وكاتب السيناريو، والمسرحيّ، وأحد أهمّ نقّاد الدراما التلفزيونية، وبين الأكثر رصانة في الكتابة عن فنون عصرنا البصرية والسمعية. وهذا رجل، على شاكلة صفوة رائعة وفريدة من أبناء سورية الذين جايلوه أو سبقوه بقليل، كان مؤسسة ثقافية قائمة في ذاتها، معتمدة على ذاتها؛ جمعت بين فضائل الريادة والتأسيس، ومشاقّ دروبها الوعرة، وكرامة شقّ الطريق كمَن يغذّ السير في حقول ألغام متعاقبة. وأن يكون امرؤ رائداً ومؤسساً في آن، أمر كفيل بإثارة الأنواء العاتية والعواصف الهوجاء، فضلاً عن الكثير من حملات الإنكار والتحريم والتأثيم، وانطباق تلك الحكمة المأساوية العتيقة: لا كرامة لنبيّ في أهله!
رحل الصبان، إذاً، في مصر التي اختارها وطناً ثانياً، أقرب إلى منفى اختياري/قسري، وذاك ـ كما علّمنا إدوارد سعيد في واحدة من ألمع مقالاته عن ذهنية المنفيّ ـ بين الأنساق الأشدّ وطأة، والأقسى مرارة. ومنذ الشهور الأولى في عمر ‘الحركة التصحيحية’، خريف 1970، تهافت رجال انقلاب حافظ الأسد على التنكيل بعدد من خيرة رجالات الفنون، في السينما والمسرح والإذاعة والتلفزة، تحت ذرائع كاذبة شتى. ولم يكن عجيباً أنّ يكون الصبان (مؤسس ‘المسرح القومي’، ومديره طيلة سنوات؛ ومدير برامج التلفزيون، ومؤسس فرقته الدرامية؛ ومدير الشؤون السينمائية العامة في ‘مؤسسة السينما’ الحكومية، وأحد أبرز المساهمين في تأسيس ‘صالة الكندي’ التي احتضنت عشرات المهرجانات الرفيعة، وحاضنة أوّل نادٍ سينمائي جادّ)، في عداد أوائل المنكّل بهم.
وهذا الرجل، الذي يحمل الدكتوراه في الحقوق العامة من جامعة السوربون، وقع في هوى الفنون عبر خشبة المسرح أوّلاً، فأخرج ـ اتكاءً على مقاربات طليعية، عصرية، وإشكالية غالباً ـ سلسلة من الأعمال الكلاسيكية والحديثة والمعاصرة؛ بينها شكسبير: ‘ليلة الملوك’، و’تاجر البندقية’، و’يوليوس قيصر’؛ ماريفو: ‘الاعترافات الكاذبة’، و’لعبة الحبّ والمصادفة’؛ وموليير: ‘طرطوف’؛ وألبير كامو: ‘العادلون’؛ وناظم حكمت: ‘حكاية حبّ’. وحين استولت السينما على جلّ اهتمامه، لجهة السيناريو تحديداً، كتب الصبان مجموعة من أفضل أفلام السينما العربية المعاصرة، اتسمت على الدوام بإشكاليات سياسية واجتماعية ذات حساسية عالية، لعلّ أشهرها ‘زائر الفجر’، 1973، شريط ممدوح شكري الذي سُحب من الصالات بعد أسبوع واحد من عرضه. وحصيلته، في هذَين الميدانين، تبلغ 25 شريطاً سينمائياً، و16 مسلسلاً للتلفزة؛ فضلاً عن عشرات المراجعات النقدية المعمقة، التي واظب على نشرها في الصحف والمجلات.
كتابه الأخير ‘السينما كما رأيتها’، 2012، يستجمع خلاصات نصف قرن من مشاهدة سينمات العالم، وتحليل خصائصها المحلية المختلفة، وربطها بحصيلة إجمالية لتأثيرات الفنّ السابع في الذائقة الجمالية الإنسانية، خاصة في قدرة السينما على التنوّع والاختلاف، وتلوّن مدارسها بأساليب فردية وأخرى كونية، وطرائق عيش ونماذج وجود، بين أقصى توترات الحياة البشرية المعاصرة، في المأساة مثل الملهاة. وفصول الكتاب تعرّفنا على ما امتاز به الصبان دائماً، من إطلالات بانورامية على المشهد السينمائي العالمي، إذْ نقرأ عن سينما الهند أسوة بالسويد، ومنجزات ‘الموجة الجديدة’ الفرنسية أسوة بالواقعية الإيطالية، ونثمّن الانفرادات (غريفيث، شابلن، أورسون ويلز) أسوة بالظاهرات الجماعية (السينما اليابانية، هوليوود، مصر).
وللصبان ترجمات متميزة، لعلّ أبرزها ثلاثة أعمال. الأوّل بعنوان ‘نظرات في الأدب الأمريكي’، للناقد الفرنسي موريس ـ إدغار كواندرو، الذي يقترح قراءة مختلفة في أعمال وليام فوكنر وجون دوس باسوس وإرسكين كالدويل، كما يعرّف القارىء على أدباء (كانوا، ساعة إصدار الكتاب) في عداد المؤلفين الجدد. العمل الثاني هو ‘في النقد السينمائي الفرنسي’، للفرنسي جان ـ لوي بوري، الذي لا يستعرض مدارس النقد السينمائي الفرنسي وتياراته، بصفة خاصة، فحسب؛ بل يناقش، أيضاً، جملة الركائز التقنية والمعرفية التي لا غنى عنها في أية كتابة عن فنّ بالغ الأهمية والخطورة، ويقتضي بالتالي أقصى التعمق والجدية. وأمّا العمل الثالث فهو في ميدان المسرح هذه المرّة: ‘الإسلام والمسرح’ن للباحث التونسي محمد عزيزة؛ وهنا، إضافة إلى موضوعات الكتاب الغنية في ذاتها، حرص الصبان على أن تضمّ الترجمة بحثاً ثانياً مترجماً عن الفرنسية، بعنوان ‘فكرة المسرح والطقوس الإسلامية’، كتبه رشيد بنشنب؛ وكذلك نصّاً مسرحياً تراثياً بعنوان ‘آلام الحسين ومأساة كربلاء’.
وتبقى إشارة إلى مقال بعنوان ‘سينما تتحدى الاستبداد’، كتبه الصبان في صيف 2012، عن شريط حاتم علي ‘الليل الطويل’؛ والذي كتبه هيثم حقي ‘بحرفية عالية وإحساس ثوري شديد، مضيفاً إلى قدرته الإخراجية موهبة كتابية مؤثرة وملفتة للنظر’، كما قال الصبان. الشريط، في نظره، نموذج مضيء ‘يعيد لنا الثقة في سينما سورية تنبعث دائماً من رمادها، وترفض بإصرار متكبر وعناد’؛ لأنها، على غرار خالد تاجا في أحد مشاهد الفيلم، كناية عن سوري ‘يستقبل حبات المطر، مطر الحرية’، على وجه ‘طالما حلم بهذا الماء المقدّس، الذي حرمته منه القضبان’.
.. أو المنفى، كذلك؛ هذا الشرط الرهيب الذي جعل الصبان يوصي بأن يُدفن في القاهرة، لا في دمشق، ربما لكي نتنبّه إلى أنّ ‘خيام اللاجئين السوريين تذكّرنا بخيام الهاربين من الجحيم الإسرائيلي بعد نكبة الأربعينات’، كما كتب.
– القدس العربي – لندن

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *