وشوشات


أنوار أيوب- سرحان*

( ثقافات )



وكانت كلّما حدّقَت في الشاشة وشوشَت أحدَنا -تلك العجوز- قبل أن تنفجر في قهقهةٍ دامعة:

1. 

مخلوطةٌ ألوانهم، ممزوجةٌ زرقتُهم بالبنيّ المعفّر، فكيف ترتّب لهم اللوحة؟ كيف تقصقص كلّ أقسام الكولاج التي تداخلَت في أدمغةٍ مسكينة؟ لن يفهموا أنّ عدوّ عدوّك لن يكون أبدًا صديقك.. لن يفقهوا أنّ تلك الزرقة إذ نُثرَت خبّأَت وراءها أرضًا مغبرّةً ورمادًا، إنهم يؤمنون يقينًا بأنها سماء حقيقية، فدَعهم.. سيأتي يومٌ يقرّون بالحقيقة، ولكن، يوم يعتنقون أرضًا أخرى رُشّت عليها الزرقة أيضًا، ويصيحون : هذي هي السماء إذن..

2.

هذي النجومُ زائفٌ بريقُها -يا صغيرتي- ، وتلك الأقمارُ ما فيها إلا الصخور.. وهناك بعيدًا في العُلا، وراء تلك العتمات، تنشغل النجوم الحقيقيّة بإضاءة سمائها ، فلا يغرّنّكِ ما ينثرون ادّعاءً للبريق، هذه ليست سماءً أصلًا ، إنها مصطبةٌ فوق أهل القاع!!

3.

لا الخيطُ الأبيض يبينُ من الأسود يا صغيري، ولا نورُ الفجر مبدّدٌ للعتمات. ما كان لنا أن نصدّقَ واهمينَ أن ما حسِبناه نورًا كان مرآةً وانعكاسًا للصفاء. ما كان لمَن عرف الصعقةَ يوم سقطَت أولى السموات أن يتبع ذاك النيزكَ الذي وقع، ويُقسم بأنّ النجومَ أتت إليه. كم كان علينا أن نذوقَ من الموت يا صغيري قبل أن نعترفَ لأنفسنا بأننا مُذ تعلّقنا بذاك الخيط كحبلٍ من السماء مرّ، وتبِعنا جريَه في فضاءٍ أسود، قد تركنا الوهمَ يحتلّ أحلامَنا، ونسينا أو تناسَينا أنّ مَن سكنَه الخيالُ ما له سوى الخيبة مِن ناقوسٍ كلما دقّ شابَته أوجاعٌ تؤسّس للغد المجبول بسوادٍ لا أبيض يوشّحه ولا حتى ألوان؟!
نَم يا صغيري، واحلم بما شئتَ، ولا تدَع الجنونَ حلمَك الأزليّ، فمهما طالَ الليلُ سيأتي يومًا فجرٌ بلا بياضٍ ، يصفعنا بمرآةٍ لا تقول إلا أنّ تلك البوّابةَ قد تصدّعَت، لينجليَ ما تخفّى وراءها من كذبٍ كان أفظع عيوبه أنّ ضحيّتَنا فيه ما كانت سِوانا!



4.

وماذا تنتظر بعد أن فضحتَ عُريَ مليكهم إذ وقف بعضُهم أعمى، فيما تعامى آخرون، وأغمض الكثيرون عيونهم كيلا يُؤخَذ عليهم إثم الرؤية، وكنتَ وحدك -يا صغيري- من صرختَ فيهم : “إنّ الملك عارٍ عارٍ”؟! ستدفع الثمن من أمنك وأمانك لكنك ستموت واقفًا شامخًا فحسبُك أنك أطلقتَ صيحتك يوم شيءَ لكلّ الأفواه أن تبتلع الصرخات أو أن تئدَها حتى من قبل أن تولد.. نم قريرَ العين يا صغيري فإنّ يومًا عشتَه بألف سنةٍ مما يعدّون..


5.

عارياً إلا منك تفضحك المرايا: أيّ أملٍ ذاك الذي خدعك- تقول- أيها المفتون لتنقلبَ حروفه فوق رأسك؟ 
أ ل م ..
ذلك السؤال لا ريب فيه آياتٌ للحاملين أوجاعَهم إنسانيةً موءودة.
أرح جسدك من رأسٍ لا ينفكّ ينادي السؤال.. أما كان أجدى لو علمتَ لغتهم أيها الأخرس في عالمهم، وملخبطَ الحروف؟!

6.

في حروبك ستكون مديناً دوماً لخصومك، كونهم منحوك الفرصة لتكتشف الوجه الحقيقيّ لأصدقائك… بعد الحرب لن تفرح بانتصارك على خصمك قدر فرحك بسقوط صديقٍ كنتَ تحمله فيك دون أن يستحقّ..

7.

ورأيتُكِ تجرين بسرعة الملهوفِ، حافيةً إلا من خوفكِ، عاريةً إلا من هواجسكِ، وشعرُكِ المنفوشُ كان يُفسحُ للريحِ كي تعاشرَه.. … ليسَ المهمّ أن نهربَ يا عزيزتي.. الأهمّ أن نجدَ ملاذاً نهربُ إليه..


8.

الموت هو الموت .. الخوف هو الخوف.. الوجع هو الوجع.. والأم التي تضمّ ابنها وتخشى عليه هي ذات الأم في كل مكان.. ثمة فرقٌ دوماً بين حكوماتٍ تعلن حروباً أو تسعى لمصالحها وبين شعوبٍ لا تعنيها المصالح ولا الأرباح.. فلا تزهُ يومًا بقتل أحدهم وإن كان فاتلك…. الإنسان هو الإنسان.. وحدها الإنسانية هي المغتالة في كل الحالات يا ولدي..

9.

ويمكنك أيضًا أن تطلق على الأعوام أسماءها الحقيقيّة بعيداً عن الأرقام: 
عام الجمر مثلًا، ذاك الذي لم ترَ فيه إلا أتونَ جمرٍ يتوقّد في صدرك، دون أن يسعى أحدهم لإخماده.. 
عام الصليب، ذاك الذي لم ترَ نفسك فيه إلا معلّقًا فوق الصليب مسوَّرًا بالأصفاد نازفًا دمك بلا توقّف .. 
عام الصعقة، ذاك الذي كنتَ ترتجّ طوال لحظاته وأنت لا تصدّق ما ترى عيناك..
عام البحة.. ذاك الذي لفرط ما صرختَ فيه عبثًا بقرَت الصرخاتُ لُبّ صوتك فبات فارغًا .. 
عام الموت، الذي لم ترَ فيه نفسك إلا جثّةً تتفسخ إذ تبحث عن قبرٍ ولا تطال، ولا تجد من يسعى لدفنها….
عام النفق .. ذاك الذي ستظلّ تسعى فيه دأبًا أن تشقّ نفقًا من عمق الموت أملًا في النشور، ولكنك سترى فيه كلَّ أولئك الذين أتقنوا التحديق فيك على مدى كلّ تلك الأعوام يحملون فؤوسهم لأول مرة.. ويسارعون لإغلاق ذاك الشقّ وتفجير النفق كي يمنعوا رأسك أن يطلّ من الموت..”

10.

لا يا صغيري، لستَ مضطرًّا أن تكون فظًّا غليظ القلب كي ينفضّوا من حولك، يكفي أن يكون نقاؤك مرآةً تفضح شوائبهم كي ينفضّوا أيضًا.. لا تبكِ يا صغيري، فالوحدة آنذاك أجمل..



11.

لا تحاول أن ترفع البسطار يومًا عن رأس العبد، لأنه فيما سيبحث تلقائيًّا عن بسطارٍ بديلٍ خوذةً لرأسه، سيظلّ يشكوك له ويدّعي عليك زعزعةَ استقراره..


ثمّ صرخَت بعد أن ضاقت الوشوشات:
الذين شربوا من ذاك النبع خبّأوه ودارَوا مكانه.. وأنا ما زلتُ لا أفقه هذي اللغةَ الجديدةَ … ولا أنا ذاك الملك لأشرب من سمّ الساحرة..
يا أيها العالم المجنون.. أين اختفى النبع؟!!

**
وكيف لا تخجل ضحكةٌ إن تبلّلت بألف دمعة ؟؟ 

كاتبة فلسطينية من الجليل

شاهد أيضاً

كأس وظلال

(ثقافات) كأس وظلال عبد القادر بوطالب تلك الظلال التي طوت تفاصيل أجفاني سارت خلفي ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *