الشّاعرة الإسبانية خوسيفينا عطّار بين المكابدة و الأمل



محمّد محمّد الخطاّبي *- غرناطة

(ثقافات) 

فى شهر يناير(كانون الثاني) المنصرم(2013) أحيت الأوساط الادبية فى مدريد الذكرى الثالثة لرحيل الشّاعرة الإسبانية “خوسيفينا كالدرون عطّار”عن سنّ تناهز 82 سنة ،لم تعش هذه الشاعرة الرقيقة خلال طفولتها حياة طفلة عادية ،كما أنها ليست إمرأة عادية ذلك أنّ حياتها كانت مطبوعة بطابع خاص وهوالمعاناه والآلام والمكابدة. وقد واجهت منذ طفولتها سلسلة من الصّراعات الصغيرة والكبيرة لتصبح سيّدة متعدّدة الإهتمامات ،وعلى الرّغم من المحن والآلام التي عصفت بها منذ صغرها ، فإنّها كانت دائما تتحلى بالشجاعة والصّبر والجلد ومعانقة الآمال.
ولدت خوسيفينا عطار في مدينة مدريد وقضت طفولتها في” بيرك بلاج” بفرنسا وهي تعالج بسبب إصابتها في سنّ مبكّرة بمرض في عظام وركها ، هناك عرفت خوسيفينا عطّار الآلام المبرحة في أعوامها الأولى بين القعود والعمليات الجراحية حيث تظهر هذه المرحلة من حياتها مبهمة غامضة في شعرها ،كما هو الشأن في قصيدتها التي تحت عنوان” قاعة انتظار” المدرجة في ذيل هذا المقال كنموذج لشعرها الجيّاش وهي من ترجمة كاتب هذه السطور. 
وقد أظهرت الشّاعرة منذ ذلك الوقت إرادة خارقة لمقاومة المرض ومواجهة المحن ،وبدأت منذ ذلك الأوان دراسة بعض الفنون الموسيقية مثل العزف على الكمان . وطفقت تخطو أولى الخطوات في ميدان الإبداع الشعري مخالفة بذلك رأى الأطبّاء الذين كانوا يشرفون على علاجها، وعندما كان عمرها لم يتجاوز بعد الحادية عشرة ،كانت الكاتبة الفرنسية المعروفة “مدام كوليت” تقدّم في مسرح الكوميديا الفرنسية بباريس بعض قصائدها التي كانت تنشرها في كبريات المجلات الشعرية الفرنسية المتخصّصة في ذلك الوقت ،وقد أقامت الشّاعرة خوسيفينا عطّار في تلك الفترة صداقة متينة مع الأديب الفرنسي “كلود كوكتو” . وكان لنخبة من الأدباء والموسيقيّين تأثير بليغ على خوسيفينا في مختلف مراحل حياتها الإبداعية، من الإسبان خوان رامون خيمينيث الحائز على جائزة نوبل في الآداب عام 1956،والشّاعران الكبيران الأخوان أنطونيو، ومانويل ماتشادو،والشّاعر الاندلسي الذائع الصّيت فيديريكو غارسيا لوركا ،والشّاعر رفائيل ألبرتي ،وميغيل إيرنانديث وخيراردو دييغو إلخ. ومن الموسيقييّن فايا وتورينا حيث أسهمت معهما في وضع بعض الأعمال الموسيقية الكبرى المعروفة مثل “عرائس من وحي الأندلس” وسواها من الأعمال والمقطوعات الموسيقية الأخرى . كما ربطت خوسيفينا عطّار كذلك صلات وطيدة مع مجموعة من الأدباء الفرنسيّين منهم فرانسوا مورياك، والفيلسوف الوجودي جان بول سارتر، ومونترلان وبشكل خاص مع الأديب الفرنسي الكبير أندريه مالرو. 
اهتمامات خوسيفينا عطّار 
لم تقتصر اهتمامات خوسيفينا على الموسيقى والشّعر وحسب ،بل تعدّتهما إلى أغراض أخرى ككتابة القصّة والمسرح ،والترجمة ،نظرا لإجادتها التامّة للغة الفرنسية .وقد برعت خوسيفينا كمحاضرة مقتدرة ،وكانت تتمتّع بقدرة هائلة على الاستحواذ على قلوب جمهورها الذى ينتشر في مختلف القاعات الثقافية بمدن أوروبا وأمريكا وجامعاتهما . من أشهر أعمالها كتابها الشعرى ” نار وصيّاح وقمر” الذى تكرّم فيه ثلّة من الأدباء الإسبان الكبار هذا فضلا عن ديوانها الشّعرى المعروف” أثرالجرح فى الرّمل” .وقد أبدعت خوسيفينا عطّار في ميدان الخلق الموسيقي كذلك حيث لا تقلّ عطاءاتها في هذا المجال شأنا عن إبداعاتها الأدبية والشّعرية خاصّة في الأغنية الحديثة ،فقد اشتهرت ككاتبة كلمات شعرية رقيقة خلال الخمسينات وبداية الستّينات بباريس حيث عرفت طريقها إلى الشهرة بواسطة أصوات العملاقين موريس شوفالييه،وإديت بياف، وكذا شارل أزنافور.وقد حصلت على نجاحات باهرة في عدّة مهرجانات ،إلاّ أنّ هذا النوع الفنّي كان يعتبر جانبا ثانويا لديها . إنّ عالم خوسيفينا عطّار الموسيقي يقوم على محور أساسي وهو أنّ الموسيقى للغناء والرقص، وقد سبق أن قدّمت نماذج من أعمالها الموسيقية في فنّ الباليه في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وأوروبا.
جرح فى الرّمل ..جرح فى القلب
ويتضمّن ديوان خوسيفينا عطّار – أثر جرح الرّمل – مجموعة من قصائدها التي تعتبر منتقيات تعكس مختلف مراحل حياتها منذ طفولتها المعذ بة ،وشبابها الحائر المعنّى،وهو في الواقع ثلاثة دواوين في ديوان واحد تحت العناوين التالية ” المدينة العتيقة” وتقصد بها الحاضرة التي تألقت خلال الوجود العربي فى إسبانيا وهي مدينة طليطلة التي تهيم بها الشّاعرة وبتاريخها العربي الزّاهر، خاصّة وأنها كانت تملك منزلا ذا ملامح عربية بها. والديوان الثاني بعنوان “وطن إسمك” والثالث “خطّ السّاعات” .ويشير الناقد الاسباني الذي كتب مقدمة هذا الديوان خوستو خورخي بادرون ،أنّ الشّاعرة خوسيفينا عطّار تتوفّرعلى طاقات إبداعية هائلة ، وقد استرعت أشعارها إهتمام شاعر كبير وهو فيديريكو غارسيا لوركا الذي كان يعجب بها ويطلق عليها منذ الصّغر ذات العكازين أو “الصبيّة ذات العكّازين ” إشارة الى عاهة العرج التي لازمتها منذ نعومة أظفارها . يقول خوستو خورخي بادرون: “الحبّ، والحقيقة ، والرّغبة ،ومرور الزمن، والرّماد الذي يخلفه كل ما هو ضائع .والبحث المضني والبطيء عن السعادة والحبّ، جموح العاطفة في سديم الذاكرة ،الغربة نحو الداخل ، العزلة ، المعاناة ،حضور شبح الموت، النّسيان إلخ كلّ تلك المعاني الحزينة والعميقة موجودة بكثافة في شعر خوسيفينا عطار. ويصف النّاقد مضمونها الشعري بأنّه ذاكرة تساعدنا –بواسطة سحرالكلمة الشّعرية-على إنقاذ تلك اللحظات الحيّة التي تحتفظ بها ذاكرتنا، ذلك أنّ الذكرى في النهاية تعني المحبّة”.
خوسيفينا عطّار والحضارة العربية بالأندلس
وتجدر الإشارة أنّ الشّاعرة خوسيفينا عطّار كانت صاحبة فكرة إحياء تقليد أدبي عريق في إسبانيا ،خاصّة خلال جيل 1927.حيث عرف الخلق الأدبي و الإبداع الشّعري في إسبانيا إزدهارا كبيرا،واشتهرت من ثمّ أسماء أدبية وشعرية لامعة مثل بيثينطي الكسندري الحائز على جائزة نوبل في الآداب عام 1977 .ودامسو ألونسو .وخيراردو دييغو .ورفائيل البرتي، وسواهم. ويتمثّل هذا التقليد الحميد في إقامة لقاء أسبوعي للشّعر تحت عنوان “أربعاء الشعر” حيث كانت بلدية مدينة مدريد قد وضعت رهن إشارتها قاعة كبرى خاصّة لهذه الغاية وتقديم مجموعة من الشعراء من مختلف الأعمار والاتّجاهات ،كان لي شرف المشاركة فيه بتقديم باقة من أشعارها كنت قد نقلتها إلى اللغة العربيّة لاوّل مرّة ، وكانت تنتابها سعادة غامرة من جرّاء ذلك، وكانت بادرة صالونها الأدبي والثقافي قد حازت نجاحا كبيرا. وكانت خوسيفينا تعزو الإقبال المنقطع النظيرالذي كانت تعرفه هذه اللقاءات إلى إستمرارية وجود الشّعر فيما بيننا ، وحضوره الدائم علي الرّغم من زحف عجلات التكنولوجيا والتقدّم المادّي الرّهيب .وتجدر الاشارة أنّ المواضيع العربية خاصّة المتعلقة بالوجود العربي في الأندلس كان لها نصيب وافر في هذه اللقاءات. خاصّة وهي والهة بالحضارة العربية والتراث العلمي والفكري والأدبي والعمراني الذي خلفه المجتمع الذي كانت تتألف منه الشرائح السكانية في الأندلس على إختلاف أعراقهم وأجناسهم إبّان الوجود العربي بها.حيث سادت حضارة راقية أشعّت على العالم المعروف في ذلك الوقت،في زمن كانت أوربّا لمّا تزل تائهة في دياجي التأخّر والظلام .كانت خوسيفينا عطّارعندما تتحدّث عن مثل هذه المواضيع تغرورق عيناها بالدّموع ويعتريها شعور غريب لا تعرف كيف تعبّر عنه كما كانت تصرّح لي كلما التقيت بها في مختلف المناسبات خلال عملي بمدريد. وصالون خوسيفينا الأدبي يذكّرنا بالضرورة بصالون الأديبة اللبنانية – الفلسطينية الشهيرة ميّ زيادة الذي كان يعقد كل يوم الثلاثاء بمنزلها بالقاهرة، حيث كان يؤمّه عمالقة الفكر وصفوة الأدباء والشعراء في مصر أمثال لطفي السيّد، وعبّاس محمود العقاد،وإبراهيم عبد القادر المازني ،وطه حسين ،ومصطفى صادق الرّافعي، ومطران، وشوقي إلخ ، ويحكى أنّ العقّاد رحمه الله عندما كان يسأل أصدقاءه وخلاّنه عن يومه فيقال له على سبيل المثال الأحد أو الإثنين ومن فرط إعجابه ورغبته فى رؤية الأديبة ميّ زيادة كان يقول” ربّاه ما أبعد يوم الثلاثاء..” وهو يوم ندوة ميّ . وقال فيها إسماعيل صبري باشا كذلك :
إن لم أمتّع بميّ ناظري غدا أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء 
وعلى الرّغم من جسم خوسيفينا عطّار النحيل ،وعاهتها الصحيّة المستدامة ، فإنّها كانت لا يمكن أن يحول الحول عليها دون أن تقوم بزيارة لبعض المآثر العربية سواء في طليطلة أو غرناطة أو إشبيلية أو قرطبة وسواها من المعاقل العربية المنتشرة في مختلف المدن والأصقاع الاسبانية. وفيما يلي نموذج أنقله إلى العربيّة من ديوانها “أثر جرح الرّمل” الذي يجيش عاطفة وشفافية وإحساسا مرهفا عميقا بمأساتها ومكابدتها…. 
قاعة إنتظار (**) 
مهداة إلى الشّاعرالتشيلي الكبير بابلو نيرود
…ووقع ذلك،حضرت للفحص 
ومرّة أخرى أشعر بالخوف يا بابلو 
في قاعة الإنتظار 
في هذا المستشفى الحالك 
الذي تشمّ فيه رائحة الألم 
ومع نفاذ صبري،أخلد للصّمت 
وفي قاعتي أتذكرّ،مصرفا غير شخصي 
أحيانا يقدّم سلفا 
وأنا اليوم يا بابلو 
في حاجة إلى سلفة جديدة لصحّتي المنهوكة 
لأنني أعرف مسبّقا ماذا سيطلبون منّي 
سوابق مرضّية ،وتواريخ جراحيّة 
وجسمي النحيف المتهالك الذي أعيش بداخله 
سيعيدون لي أوراقي 
فى صمت محايد معقّم ومجهول 
وتمرّ الدقائق أو ربما بضع ساعات 
وأنا غارقة في التفاؤل- المتشائم 
بينما أنا هلعة ،وحيدة، 
متحجّرة 
* * * * 
فجأة يقع ديوانك في يديّ 
عشرون قصيدة حبّ،بدّدت مخاوفى ووحدتي 
أوقفت نبضي،وضاعفت من شجاعتي 
قصائدك عكاكيز لهمّتي 
وأغنيتك البائسة 
تخلّصني نغماتها من رهبتي 
* * * * 
بذراع أبياتك يا بابلو ،أخي 
ما زلت أنتظر. 
* *-
_____________________________
*- كاتب وباحث ومترجم من المغرب. 
القصيدة من ترجمة كاتب هذه السطور عن الإسبانية.

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *