«حكايات أيسوب».. تشويق الحكمة الإغريقية


*السيد نجم

تعد حكايات «أيسوب»، أحد أشهر معطيات التراث الإنساني الحكائي الشفهي. وحرصت المراكز البحثية والثقافية على توثيقه، منذ عرفت المطبعة. فراج العمل في بقاع الأرض، وشرع الكبير والصغير في انحاء العالم قاطبة، يحس بمتعة كبيرة في الاستماع الى تلك الحكايات أو قراءتها. ولكل في مذاهب الانجذاب والمتعة تلك، مبرره واسباب تعلقه. فالبالغون يتفكرون في مخزون ذاك اللون السردي المفعم بالصور والقصص الشائقة، ليستخلصوا منه العبر والمواعظ والحكمة. ذلك بينما يتمثل الصغار أحداثه فيشفى غليلهم معه، حين يعلمون أن الانتصار والفوز متاحان ايضا، للطفل أو الضعيف، بفضل سر الحيلة والاحتكام الى العقل.

باتت «حكايات أيسوب» من أشهر الحكايات القصصية. ورصدها الدارسون، جنبا إلى جنب، مع «حكايات جحا»، وان اختلفتا قليلا، بتوسع وتحليل، باعتبارهما تناولتا وتمثلتا مجموعة الحيوانات والطيور (غالبا)، وذلك اكثر بالنسبة للأولى.
تداخل وتشابك
اعتبر البعض «حكايات أيسوب»، امتدادا للحكايات الخرافية التي وردت على لسان الحيوان، تلك التي تسمى أحيانا «حكايات بيديا»، نسبة إلى راوي الحكايات الهندي، والتي ترجمها «ابن المقفع» إلى العربية، تحت عنوان «كليلة ودمنة». ويرجع سبب هذا التنسيب إلى ما يعرف ويصنف بـ «الحكاية الخرافية»، إذ إنهما معا، تتميزان بقصر الحجم، وتتناول الأحداث فيهما، على لسان حيوانات محددة، ظواهر الطبيعة. كما تحمل الحكاية من هذا الصنف، في طياتها، دلالات أخلاقية. أي انها أخلاقية بالدرجة الأولى، وليست تاريخية. وهو ما يميزها عن القصص المعروفة الآن.. كما أنها تضم الأمثال والحكم وحكايات المغامرات والأحداث العجيبة.
ولم تترجم «حكايات ايسوب»، مع أهميتها، إلى العربية، إلا خلال السنوات القليلة الماضية، بقلم إمام عبد الفتاح إمام، الذي ترجم أكثر من مئتي حكاية. وأعيد نشرها في مشروع «الكتاب للجميع»،
مقولات
تمخضت مدارات البحث والتحليل حول العمل، عن ملاحظات واستنتاجات جمة. وبذا او ظهر، بشكل بارز، التباس كبير حيالها.. فمرة يقول البعض ان تلك الحكايات ليست من صنع «أيسوب»؟! وفي رأي مغاير، تنتسب إلى الحكايات الخرافية التي صيغت قبل «ايسوب» (ربما في القرن السابع أو الثامن قبل الميلاد). وبالتالي أسقطت تلك التوجهات، بمجملها، نسبة العمل إلى «أيسوب»؟!
وعلى هذا الصعيد، خلصت أبحاث علمية متخصصة، إلى أن تلك الحكايات الخرافية السابقة عن «أيسوب»، استمرت وراجت بعد فترة من حياة ايسوب. لا بل ظهرت في بلاد الرومان، وفي غيرها في وقت لاحق. وبعض تلك الحكايات الخرافية عرف صاحبها، مثل أول مجموعة يونانية بقلم بابيروس، حتى وانه قيل انه جمع حكايات ايسوب وحولها إلى صياغة شعرية. كذلك، عرف بعضها ونسب إلى أفيانوس، الأديب الروماني في القرن الرابع الميلادي، ومع ذلك يوجد العديد من الحكايات مجهولة النسب، حتى الوقت الحالي.
حقيقة الشخصية
لم يفت المعنيون والمتخصصون، التركيز على التحقيق والدراسة حول شخصية ايسوب نفسها. وبذا شرع بعضهم يتساءل: هل ايسوب شخصية حقيقية؟».
وكانت الخلاصات متعددة. إذ هناك مجموعة تعتقد أنه من عادة اليونانيين أن ينسبوا الأعمال المجهولة إلى مؤلف ما، وإن لم يكن لها مؤلف. كما يرى فريق آخر أن ايسوب شخصية شبه أسطورية، وأنه المؤلف الحقيقي لتلك الحكايات، بل ونسبوا إليه صفة الإصلاح والصلاح، حتى انه أصلح من أحوال بعض الكهنة في عصره. وأما الفريق الثالث (منهم: هيرودوت)، فيؤكد أنه شخصية حقيقية غير أسطورية، بل وانه كان عبدا في أثينا أعتقه سيده. كما ذكره بعض أعلام الإغريق في كتاباتهم (أفلاطون، أرسطو، أرستوفان، أكسينوفان).
جدل
لايزال مكان مولد ايسوب، محط جدل ونقاش، ومتنازعاً حوله. فالبعض يقول انه ولد في إحدى المدن الواقعة في أوروبا حاليا، ويرى آخرون انه ولد في آسيا الصغرى أو في إفريقيا!
وأكد أحد المؤرخين، أن ايسوب افريقي، حيث أشتقُ اسمه من كلمة (Aethiopian)، وهي كلمة استخدمها الإغريق للتعبير عن الأشخاص ذوي الأصول الإفريقية. ثم أضاف المؤرخ نفسه، ان أكثر حكايات ايسوب كانت تحتوي على قصص فيها شخوص حيوانات تعيش في إفريقيا، ولا توجد في أوروبا .
وقال باحث اخر، إن ايسوب كان عبداً لأحد الأشخاص في جزيرة «ساموز» الإغريقية، وتحرر لاحقاً ليعيش في عهدة الملك كريسس (قارون)، إذ رافق عدداً من الحكماء الإغريق.
ُومثل ما اختلف البحاثة في مولده، اختلفوا ايضا حول موته، ويقال ان ايسوب ُقتل من قبل أهالي مدينة «دلفي»، على الرغم من عدم وضوح السبب. وبالمقابل، توقع بعض المؤرخين أن موته ربما يرجع الى أسباب عديدة، من قبيل: قتل بسبب سخريته المهينة منهم ومن تقاليدهم، اختلس اموالا كان قد أعطاها إياه الحاكم «كريسس» ليوزعها على سكان مدينة دلفي، وتدنيسه الكوب الفضي المقدس.
وتفيد الرواية هنا، أنه، وبعد قتل سكان مدينة دلفي لأيسوب، تحججوا ان السبب هو لكونه كان يحمل أحد الأوبئة، ولذا كان لا بد من قتله للتحصن من الوباء ذاك. كما قيل ان أهالي دلفي أبدوا استعدادهم لتعويض عائلة ايسوب، فكان أقرب شخص لأيسوب هو حفيد من كان يملكه، قبل تحرره من العبودية.
نماذج
انتشرت حكايات ايسوب في كافة أنحاء العالم، وقرأتها أجيال بعد أجيال. ولكن ليس كل الحكايات التي تنسب إلى ايسوب من تأليفه. وهناك أسباب كثيرة تدعو إلى الاقتناع بأن بعض الحكايات المنسوبة إليه ليست له. ولكن المهم هو ان الحكايات لا تزال في متناول الناس، في كل مكان، بكل ما تحمله من حكمة وتسلية وفائدة.
ومن بين تلك الحكايات:
«الثعلب والقناع»:
«دخل الثعلب يوما منزل ممثل، وراح يعبث بجميع محتوياته، فوجد من بين ما وجد، قناعا على شكل رأس غول أو (بعبع). وهو من عمل فنان موهوب، فأمسك به بقدميه وراح يقول: يا له من رأس جميل، خسارة أن لا يوجد فيه مخ!».
«العلاج السهل»:
«تجمعت الأنهار يوما. وتقدمت بشكواها إلى البحر. فقالت:
لماذا عندما نصل إليك ونغمرك بمياهنا العذبة الصالحة للشرب، تقوم أنت بتحويلها إلى مياه مالحة غير صالحة للشرب؟.
استمع البحر إلى شكوى الأنهار ولومها في صمت. ثم أجاب في هدوء: العلاج بسيط: لا تأتوا إلي. وعندئذ لا تكون مياهكم مالحة!».
«الحمار في جلد الأسد»:
«ارتدى الحمار يوما جلد الأسد، وراح يرعب الوحوش كلها. لكنه التقى بالثعلب وأراد أن يخيفه مثل بقية الحيوانات. فقال له الثعلب:
صدقني كدت أنا نفسي أخاف منك لولا أنني سمعت نهيقك!».
_______
*(البيان)

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *