إحياء أجاثا كريستي


*يوسف ضمرة

ربما تكون روايات أجاثا كريستي هي الأكثر رواجاً في العالم كله، وهي الروايات التي لهث مخرجو السينما خلفها حد الإعياء والرجاء. ومنذ عقدين ونيف تقريباً، أعادت الرواية الغربية الاعتبار إلى أجاثا كريستي من دون أن تسميها أو تذكرها.

يعرف القارئ العربي أجاثا كريستي بوصفها كاتبة روايات بوليسية، وهو وصف صحيح بالطبع. والرواية البوليسية كما كتبتها كريستي تنطوي على جريمة وقاتل غامض، لا يتم الكشف عنه إلا في نهاية الرواية، ولا يتم عرض الموضوع بهذه البساطة، حيث تقوم الكاتبة بتوريط القارئ في احتمالات عدة، ولكل احتمال سمات تؤهله للصواب.
وقد عُرف تكنيك هذه الكتابة بالتكنيك البوليسي، أما الروايات غير البوليسية فقد اعتمدت حبكات وتقنيات وموضوعات أخرى لجذب القارئ وشد انتباهه إلى العمل الروائي، وهو ما دُعي بالتشويق، ولكن التطورات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي أصابت المجتمعات الغربية، أسهمت في خلق موجات روائية وسردية لا تعتمد التشويق، بل اعتبرت هذا العنصر أمراً تقليدياً لابد من التخلص منه في الكتابة الجديدة. وهو ما لاحظناه في ما سميّ بالرواية الجديدة في فرنسا مثلاً، وفي رواية الواقعية القذرة في أميركا، وإن بدرجة أقل، مع استثناء كتابات بول أوستر الذي أسهمت تجربته مع السينما في تنمية وعيه بالتشويق، بل وفي التوجه نحو الرواية البوليسية نفسها، أو الحبكة البوليسية في أقل الأحوال.
ومنذ ثلاثة عقود على وجه التقريب، جرت إعادة الاعتبار إلى الحبكة البوليسية، أو التكنيك البوليسي في الرواية الغربية بتسارع كبير، وبوتيرة عالية. بل إن بعض الروايات نحت منحى الرواية البوليسية في الشكل والموضوع، فكانت جريمة القتل والبحث عن قاتل، كما هي الحال في رواية «اسم الوردة» لأومبيرتو إيكو. ولكن الأهم هو اعتماد الرواية الغربية الجديدة تكنيك الرواية البوليسية، ولو من دون جريمة أو قاتل أو ما شابه ذلك. واللافت أكثر هو اعتماد هذا التكنيك في روايات لا علاقة لها بالبوليسية من قريب أو من بعيد كبعض روايات أمين معلوف وماريو بارغاس يوسا، وباولو كويلو، وغيرهم. أما أن تتم الاستعانة بالتكنيك البوليسي في رواية تحكي قصة حب، فهذا كان أبهى مزاوجة بين التكنيك والموضوع، وهو ما حدث في شيطنات الطفلة الخبيثة لماريو بارغاس يوسا. ولكن التجلي الأكبر للحبكة البوليسية ظهر في رواية «شيفرة دافنشي» لدان براون. والنماذج لا تنتهي ولا تتوقف. ولكن ظاهرة كهذه لابد من قراءتها من زاوية أخرى بعيداً عن التوصيف.
فلماذا لجأ الروائيون في العقود الثلاثة الأخيرة إلى هذا التكنيك؟
لا يستطيع أحد أن ينكر أن ثورة الاتصالات، وسهولة الحصول على المعلومات، وتوافر خيارات هائلة أمام القارئ، هذا كله جعل من الرواية أحد الخيارات بنسبة أقل بكثير مما كانت عليه من قبل. وهو ما انتبه إليه الروائيون فلجأوا إلى الاستعانة بالتشويق. وليست مصادفة أن يكتب الكثيرون منهم رواية بوليسية في الشكل كما فعل باولو كويلو في روايته «الرابح يبقى وحيداً». ولكن ما ينبغي لنا الانتباه إليه، هو أن الرواية البوليسية الجديدة ليست معنية بتسلية القارئ كهدف رئيس، وهو ما يشكل فرقاً كبيراً بين عالم أجاثا كريستي ورواية اليوم بتقنيتها البوليسية.
________
*(الإمارات اليوم)

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *