إسطنبول: مدينة تحنط البراءة في متحف


لطفية الدليمي *

عندما تفقد المدن العظمى براءتها وعطرها الطبيعي تتحول إلى متحف للقيم والأفكار والأزمنة المتهاوية ،فالمدن خاضعة لفكرة الزوال والقيامة بتغيراتها وتكرار ولادتها ، يحكمها مرور الزمان وترادف الوقائع الأرضية ، بينما تنطوي بُنيتها على نواة جوهرية أقرب إلى بداهة الشعر وفانتازيات التخييل ، تتداولها الأعمال الأدبية موتيفات وترنيمات وأسرارا مباحة ومفردات يستلهمها الشعراء والروائيون ليصنعوا منها مدنهم الأخرى المترنحة بين اليوتوبيا والحلم المستحيل والانهيارات واصطناع رؤية مغايرة للمستقبل .
إسطنبول التي رأيتها في السبعينيات هي غير إسطنبول العقد الأول من القرن الحالي، مدينة الأمس تفيض شعرا وأناشيد مولوية ونساء متأنقات وتراثا أصيلا تخمرت عناصره من تزاوج الفن الإسلامي مع الروح الأناضولية وأساطير الشرق التي تداخلت مع البقايا البيزنطية الرومانية لتقدم لنا مزيجها السحري المغوي ، أما اليوم فقد تلاشى التراث الثمين عندما زاحمته في سوق ( الغراند بازار) بضائع صينية وكورية مقلدة أزاحت التحف التراثية والمطرزات الرقيقة التي تبدعها سيدات مدينتي قونية وبورصة وفتيات الجبال الماهرات اللائي تحولن الى خادمات وبائعات اسطنبوليات، ضاعت البراءة الأناضولية والروح الشرقية إلا قليلا وغدت إسطنبول اقرب إلى مدينة أوروبية تقلد مدينة شرقية فقدت براءتها.
يصف أورهان باموق واقع حال تركيا في حوار له مع موقع ( قنطرة) :
(بلادي متأثرة بالدرجة الأولى بالقيم الإسلامية وتقاليدها الخاصّة ، وفي الوقت ذاته يتملكها هذا الحنين الهائل إلى الغرب ، وهذه المتناقضات بالذات لا تزال تتحكم بتركيا – حتى يومنا هذا)
عندما كتب أورهان باموق روايته ( متحف البراءة) كان ينعى تلك الملامح الأصلية الضائعة التي ميزت سنوات الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي ثم فقدتها مدينة أحلامه في خضم التحولات الاجتماعية والانقلابات والتغيرات السياسية والارتماء الكلي في الحلم الاوروبي المستحيل .
كان أورهان باموق وهو يدون فصول روايته( متحف البراءة) سنة 2008 يشاهد كل صباح مبنى قديما وهو يصحب صغيرته الى المدرسة ويتمنى ان يشتريه ليحوله الى متحف كما فعل بطل روايته (متحف البراءة) الذي جمع أشياء حبيبته من امشاط وملابس وأوراق وبطاقات سينما وأحذية وساعات وأدوات زينة وأقام متحفا لزمن الحب البريء وذكرياته ،ومن المتحف الخيالي في الرواية انبثق حلم باموك بإقامة متحف للبراءة يمثل العصر الذهبي الحديث لمدينته المفقودة يجمع فيه الأشياء اليومية التي كانت مستعملة في عقدي الستينيات والسبعينيات : قصاصات صحف وبطاقات بريدية وحليا وثيابا وعطورا وساعات وملاحات ومفاتيح وملاعق .
عمد الروائي الحالم الى المزج بين حقيقة مدينته وبين قصته المتخيلة فقام بتقليد روايته وافتتح من ماله الخاص ( متحف البراءة) ووضع في مدخل المتحف آلاف أعقاب السجائر التي افترض أن (اوسون) العاشقة دخنتها طوال السنوات الثماني التي استغرقتها قصة حبها لكمال ، شاء أورهان باموك أن تتحول إسطنبول الى معشوقة أبدية محنطة في متحف كفعل رمزي لمحاولة الاحتفاظ بروحها الهاربة ،وهكذا افتتح متحفه سنة 2012 لدى الاحتفال بإسطنبول عاصمة للثقافة الأوروبية وقام بتحويل فصول الرواية الـ83 الى خزانات زجاجية تضم أشياء يومية تمثل تطورات قصة الحب التي تتماهى مع عشقه الكبير لمدينته المفقودة وتاريخها المضطرب وبذا يكون هذا المتحف أول متحف في العالم يقام استنادا إلى نص روائي ويجسده على الأرض ويستلهم أحداثه في تبويب خزائنه التي تحفظ الصور الفوتوغرافية و القمصان وزجاجات العصير، هل سنرى يوما متحفا لبراءة بغداد يحفظ ذكريات أناسها وملامحها المدنية الضائعة وهي الأسمى من تراث السياسة والحروب.

* أديبة من العراق

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *