أطول 48 ساعة في التاريخ!


* أمجد ناصر

‘الأسلحة آلات للقتل وليست أدوات العاقل

فهو لا يستعملها إلا إذا لم يبق لديه خيار
السلم والسكينة عزيزان على قلبه
ليس النصر سبباً للفرح
إن من يفرح بالنصر يفرح بالقتل
عندما يقتل عدد كبير من الناس
ينبغي النواح عليهم بمرارة
ما الفرق إذن بين النصر والجنازة؟’
من ‘كتاب التاو’ الصيني
ترجمة: هادي العلوي
ينعقد لسان المرء وهو يرى المشاهد الملحمية في ميادين مصر وشوارعها. المشاهد نفسها، بصرف النظر عن قضيتها ودعواها، غامرة، مذهلة، باعثة على القشعريرة، ولقد ظننا أننا لن نراها، مرة أخرى، بعدما استجمع المصريون كل تواريخ القهر والاستغلال والإذلال ونفثوها من صدروهم دفعة واحدة فانفجر بركان الغضب في ثورة 25 يناير عام 2011.
لم يخطر في بال من كُتِبَ له أن يشهد ذلك الحدث المزلزل أنه قابل للاعادة والتكرار. ظننا (بل ظن العالم كله) أن تلك هي ‘بيضة الديك’. شيء يحدث مرة واحدة فقط وغير قابل للتكرار. ولكن ها هم المصريون يعيدون الكرَّة. ها هم يحطمون رقما قياسيا عالميا في التظاهرات السياسية سبق لهم أن سجلوه هم ذاتهم قبل نحو عامين ونصف. فما شهدته ميادين المدن المصرية وشوارعها يوم الثلاثين من حزيران ‘يونيو’ الماضي كان حسب عنوان عريض للبي بي سي بالانكليزية: أكبر تظاهرات في تاريخ البشرية. لم يشهد العالم شيئا كهذا من قبل الا في مصر. ولا يمكن لهذه الحشود، التي تتلاطم كأمواج يوم الحشر، أن تجتمع، أيضاً، على باطل. لا يمكن جمع كل هؤلاء الناس، من مختلف الأعمار، الطبقات، الميول السياسية، الجغرافيا المصرية الشاسعة، بقرار سياسي. لا تقدر قوة معارضة، مهما كانت شعبية ومعبرة عن مزاج اجتماعي عريض، على حشد كل هؤلاء البشر. يحدث أن تتقاطع مواقف قوى سياسية معينة مع مزاج شعبي ما فتسهم في ارتفاع منسوب الحشد والتعبئة.. ولكن ليس كما أرتنا مصر في الثلاثين من حزيران وما تلاه من أيام مشهودة. ذلك هو الشعب المصري نفسه وليست قواه السياسية. وبدقة أكبر ذلك معظم الشعب المصري لأن للطرف الآخر من معادلة الصراع السياسي في مصر الآن قاعدته وجمهوره.
ما حصل (ويحصل) في مصر الآن لا يحسب على قوة سياسية. ليس فعل معارضة محسوبا. ليست سياسة تكتيكية. ذلك هو الشطر الأعظم من الشعب المصري وقد خرج يعبر عن خيبته في الرئيس الذي أدلى قسم كبير منهم بصوته له وأولوه ثقتهم فلم يكن أهلا لتلك الثقة.
‘ ‘ ‘
أكتبُ هذه الكلمات وأنا أتابع تتالي المَشَاهِد التي تحبس الأنفاس على التلفزيون وانتظر، مثل ملايين غيري، ما سيسفر عنه انتهاء مهلة الجيش للقوى السياسية لايجاد حل. هذه الساعات الثمان والاربعون هي، جرياً على الأرقام المصرية القياسية، أطول ثمان وأربعين ساعة في التاريخ.
أكتب باضطراب، بتقطّع في النفس والأفكار والجمل كما تلاحظون. 
‘ ‘ ‘
الشعب المصري المتحضِّر في الجوهر وليس في البرقع والشكل صبر على حكامه الجدد. والصبر شيمة حضارية بامتياز. أعطى فرصة. التمس عذرا. لكن الحكام الجدد السادرين في ‘التمكين’، المنقلبين على وعودهم ومواثيقهم لشركائهم في الثورة والوصول الى كرسي الحكم من دون أن يرفَّ لهم جفن، فسروا الصبر رضى، قبولا غير مشروط، أو ربما لا مبالاة ونفاد طاقة بسبب طول المرحلة الانتقالية وتكسُّر النصال على النصال.
لم يكن الأمر كذلك. 
هذا ما أثبتته الأيام.
لقد استعدى الحكام الجدد، ما ظهر منهم وما بطن، طيفا واسعا من المصريين وبسرعة قياسية: القوى السياسية المدنية، المرأة، شباب الثورة، الاعلام، القضاء، الفنانين، المثقفين، أجزاء من الحركة السلفية، كما أنهم أحرقوا جسورهم مع القوى الوطنية المصرية ذات المرجعيات المدنية التي كان يمكن أن يبنوا معها تحالفا واسعا (على الشاكلة التونسية رغم عثراته) لعبور المرحلة الانتقالية الصعبة، بل المأساوية على الصعيد الاقتصادي، لكنهم فضلوا، للأسف، التحالف مع فصائل اسلاموية لها تاريخ راسخ في العنف ومنعدمة الجذور شعبياً.
في المحصلة لقد أخطأ ‘الاخوان المسلمون’ في التقدير. بل يمكن القول إنهم تكشفوا عن سذاجة سياسية منقطعة النظير. فجروا أنفسهم، ومصر معهم، الى شفير الاقتتال الأهلي إن لم يقص جناح الصقور في ‘جماعتهم’ عن المشهد و’يفرملوا’ في قضية ‘الشهادة’ على مذبح ‘الشرعية’، فلا تستحق ‘الشرعية’ (= الكرسي) اراقة الدم وتمزق المجتمع وتنابذه.
‘ ‘ ‘
ما يحدث في مصر ثورة شعبية وليس انقلابا.
إنها ليست مؤامرة. على ‘الاخوان’ أن يعوا ذلك. أن يخرجوا من قوقع النكران الذي حبسوا أنفسهم فيه فلم يعودوا يرون الا ما يحدث داخل القوقعة. هذه ثورة ثانية، او استمرار للثورة الاولى التي لم تؤت أكلها كما كان متوقعا. 
فإذا كانت تونس أطلقت شرارة التغيير في العالم العربي عبر جسد محترق فإن مصر هي التي أرست وجهة الموجة وحددت معالمها سواء من حيث الشكل (الحشود، احتلال الفضاء العام) أو من حيث الجوهر: المجيء بالاسلاميين، أكثر القوى السياسية العربية تنظيما. فبعد الموجة الثورية المصرية راحت نظم عربية تنهار أو تتضعضع مؤذنة بوصول قوى الاسلام السياسي (في صيغتهم الاخوانية) الى السلطة في مصر، تونس، ليبيا، المغرب، فضلا عن وجودهم المؤثر في الثورة السورية، الحراك الاردني، العراقي، اليمني، اللبناني، الفلسطيني إلخ.
وها هي مصر (أو للدقة، معظمها) التي أولت الاسلاميين ثقتها عبر صناديق الاقتراع تعيد النظر، في الشارع، بذلك التفويض المشروط ضمنا بعد عام من الفشل في ادارة جهاز الدولة، والأهم بعد شهوة مضطرمة للإستئثار بالسلطة في مرحلة انتقالية من طبيعتها أن تكون ائتلافية.
‘ ‘ ‘
ولكن.. بعد كل ما سبق علي أن أتوقف عند نقطة مهمة. لقد اندفع الكتاب والمثقفون العرب في تقريظ ‘الربيع العربي’ في وهلته الاولى، وعندما جاء بالاسلاميين راحوا يشتمونه ويصفونه بالخريف، وها هم اليوم يسدرون، كعادتهم، في نشوة ‘الانتصار’. سمعت، وقرأت، في الايام الماضية الكثير من التنظيرات عن ‘كنس′ الموجة الاخوانية، الاسلاموية عموما. عن اختفائها الوشيك من المشهد العربي. مهلا أيها الاخوة. ما يحدث في مصر الآن (وهو قابل للتكرار في غير بلد عربي) ليس لحذف الاسلاميين من المشهد السياسي بل لتصحيح المسار وتعديل للكفَّة. المشهد المصري الراهن يرينا، في أحد وجوهه، أن لا طرف قادر على ‘شطب’ طرف آخر، تماما، من الحياة السياسية، وأن ‘الشرعية’ ليست ورقة في صندوق ثم كفى الله المؤمنين شرَّ القتال، بل هي رضى، قبول، والأهم: إنها منجز.
الناس تريد عنبا.
وليس مقاتلة النواطير.
الناس تريد حياة كريمة
وليس احتلال الميادين والشوارع لسبب او من دون سبب.
هذا درس تلقنه الجماهير المصرية لنخبتها سواء كانت دينية أو مدنية.
على الجميع أن يتعظ. 
________
* (القدس العربي)

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *