في العلاقة ما بين الحقيقة والإنسان


عامر ملكاوي*

( ثقافات )




للتجاوز عن كل ما يمكننا أن نورده من تعريفات مختلفة للحقيقة، فإننا نودّ أن نتساءل عن الدوافع الإنسانيّة للبحث عن الحقيقة. فالإنسان بفطرته، سواءا كان واعيا أو غير واع لنزعته المعرفية، فإنه دائم السعي وراء المعرفة. معرفة كل شيء. فهل يكفي ذلك لأن نقرّ بأن المعرفة لدى الإنسان، هي مطلب غريزيّ.أم ضرورة وجوديّة؟
وهل يمكننا القول بأن حياة الفرد بجميع تفصيلاتها إنما هي تبرير لوجوده؟

أسئلة كثيرة قد لا نملك إجابات شافية عليها، لكن وجدنا أنه من الضروري التوقّف عندها.
ومن أهم الأسئلة التي يمكن أن نطرحها: هل الحقائق كلها على حق؟

فنتيجة لإقرارنا بحاجة الإنسان للمعرفة، وسعيه الدؤوب لتحقيقها، فإننا سنصطدم بأسئلة كثيرة، وجدالات لا حصر لها، تبدأ بالإنسان ذاته. إذ أن من يتوصّل للحقائق ويقرّ بصدقيّتها هو الإنسان، فهل يمكن للإنسان أن يكون مقياسا للحقائق المطلقة، إذا أخذنا بعين الإعتبار أن الحكم على الحقائق من حيث صدقها أو عدمه، يتلازم بالضرورة مع معتقدات الإنسان وتوافقها أو عدم توافقها مع واقعه. وبتفصيل أدق، يمكننا القول بأنّ الحكم على الحقائق يشترط النسبيّة، إذ لا يمكن للفرد الذي يتوصّل إلى حقيقة ما أن يفرضها على الآخرين، فهي حقيقة واقعة بالنسبة له فقط، لأنها تتوافق مع معتقداته وأفكاره، وقد لا تتحقق لها نفس الشروط لدى فرد آخر. أي أن الإنسان يمكن أن يكون مقياسا للحقائق التي يتوصّل إليها هو ، ولا يمكنه أن يكون مقياسا شاملا للحقائق المطلقة. وإن ما يتوجّب عليه فقط هو إيجاد البراهين على ما يدّعيه من حقائق، دون أن يفترض صحّتها المطلقة، ويفرضها على الآخرين. حيث أن الحقيقة في ذاتها تنبثق من حريّة البحث عنها وفيها. وبناءا على كل ما سبق، هل يعني ذلك أن الحقيقة تندرج تحت مفهوم النسبيّة؟ 

ولكن إذا تبحّرنا في الحقيقة العلميّة مثلا، فإنه يمكننا أن نعترف بشموليّة الحقيقة القائمة على براهين جليّة واضحة، يمكن اختبارها على أرض الواقع.ولكن ماذا يمكننا القول في شأن الحقائق الماورائيّة، الدينية منها مثلا، فهي تعتمد أساسا على الأفكار والمعتقادت المسبقة لدى الإنسان، ولا يمكننا في كثير من الأحيان إيجاد أضعف البراهين عليها. هل يعني ذلك أن لا وجود لأي حقيقة سوى الحقيقة العلمية، لأنها وحدها القابلة للاختبار والتجربة، ولأنها تمتلك المقدرة على تقديم البراهين الدامغة على صحّتها؟ وإن قبلنا بذلك، فهل يكتفي الإنسان بالحقائق العلميّة حتى يشعر بتخمته المعرفيّة؟

بعيدا عن ذلك كلّه، من المهم أن نبحث في دوافع الحكم على الحقيقة بحدّ ذاته، إذا أنّه من المحتمل أن تكون مصارد الحكم، هي أفكار تسلطيّة لاواعية يلجأ الإنسان إلى تبرير وجودها، عبر تدعيمها بحقائق تكرّس وجودها، وتنأي بالوعي عن ألم مقاومتها. إذ أن البراهين ليست هي الشرط الوحيد للحكم على الحقيقة، وإنما عدم وجود مقاومة لهذه البراهين يجعل من الحقيقة موضوعا أغنى للإقناع. 

وهناك أيضا ما يجعلنا حذرين في إطار الحكم على الحقائق من قبل الإنسان، إذ أن الموضوعيّة لدى الإنسان هي محطّ جدال ونقاش، ومن وجهة نظرنا أنه ليس هناك حياديّة مطلقة لدى الإنسان في تقييمه للحقائق، إذ أن الهوى الداخليّ، والنزعة الشخصيّة تلعب دورا كبيرا في تبرير صحّة بعض الحقائق، التي تتوافق مع التركيبة النفسيّة والبناء الداخلي لدى كل فرد على حدة.

وأخيرا، نختصر القول بأن ما يتعلّق بالحقيقة ، يبقى دوما محلّا للجدل والنقاش، لأن الحقيقة بحد ذاتها، هي مفهوم يحتمل الكثير من التفسيرات، وتلازمها مع الإنسان يزيد التعقيد تعقيدا أكبر، وكل ما في وسعنا عمله، هو البحث عن وفي الحقيقة ، مفهوما وموضوعا. 

* قاص من الأردن




شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *