يوم الحشر


*عناية جابر

تعيش على إيقاع التقاتل الدامي دائماً، سواء كنت في البلد وفي دائرة الأحداث، أو بعيداً جداً، في أميركا مثلاً. 

من بوسطن الى نيويورك بالسيارة، كان لا بدّ لك من أن تحسم أمر استغراقك في التفكير في حفلة الجنون المتنقلة في لبنان. محمد عبد الوهاب في “ال سي دي” الذي استعنت فيه على بُعدك وحيرتك وقلقك يُغنيّ “يا دنيا ياغرامي”… اجل “يادنيا يا غرامي”!! لكنها غير هذه الدنيا، أرجوك، المليئة بالرعب والقتل. مزاج عبد الوهاب البادي في هذا الشريط المنبعث من راديو السيارة، عالٍ جداً، وأنت بمزاجك المشدود الى الوتائر الأمنية في كل رقعة في بلدك، وفي البلدان العربية كافة، تحاول أن تُرخي قليلاً حبل التوتر الذي يوشك أن يخنقك، فتستمع إليه في رائعته الأنيقة “رُدت الروحُ على المُضنى معك/ أحسنُ الأيام يومٌ أرجعك”. تتمنى أن يأتي قريباً ذلك اليوم الذي يُرجعك، كي تُردّ الروح التي بقيت هناك، ولم تصطحبها معك. أنت هنا من دون تلك الروح الساخنة وقد أبت أن تُفارق، مجرد سائح يتملى الجمال الأميركي ويعجزُ عن تبنّيه. لا يرحمك عبد الوهاب، ويروح يرميك في حمأة غرامية في أغنيته “يا ناسي يا وعدي” لمّا يسأل حبيبته مُعاتباً: خلفتي ليه الميعاد، ايه اللي نسّاكي مواعيدي؟ يا حبيبي يا عبد الوهاب خلفت الميعاد لأنها من الجائز أن تكون “علقت” في صيدا! وبإمكان مطلق همروجة وحشية دائرة في أيّ من شوارع لبنان، منعها عن ميعادك.
يُصّر عبد الوهاب على تعذيبي وعلى إضافة همّ الى همومي في الشكوى التي يُطلقها في موّاله الرقيق هذا: 
“كل اللي حب اتنصف/ وأنا اللي وحدي شكيت 
حتى اللي رحت اشتكيتلو/ قللي ليه حبيت” 
الحال من بعضه يا عزيزي عبد الوهاب، الحال من بعضه والله، فلا تشكي لي ولا أبكي لك، و”ما حدن أحسن من حدن”!! 
على مشارف نيويورك، في مدخلها الجنوبي في مانهاتن، تكون قد أجهزت على الكثير من الأغنيات بما هي في المحصلة كمٌ من اللوعة والشكوى والغرام المبرح، وتشاء أنت أن تعقبها بأغنيات تحمل في الظاهر أسئلة بسيطة ولكنها بالنسبة الى الوضع الأمني هنا وهنالك، وجودية بامتياز من مثل: “إيمتى الزمان يسمح يا جميل/ أسهر معاك على شط النيل؟”. 
القليل من الفلامنكو أخيراً ليكتمل الشجن، بعده ذلك الغناء الصوفي للشيخ حبيب التوني، لتجد أنك وصلت الى قلب “التايم سكوير” مع صوت سيزاريا آفوريا الساحر، وهي تطلقه في التغني والغزل بـ”الكاب فير” بلدها الجميل الصغير. 
حسناً، تخالهُ يوم الحشر هنا على هذه الجادات الرحبة الممتلئة بكل أجناس البشر. نيويورك على كل حال مدينة ليست نظيفة، تدوسها الأرجل من كل جهات الأرض، العروض الراقصة والغنائية، الألعاب البهلوانية، وعروض الرسم والإبداع في كافة فصوله. في حي “سوهو” و”سنترال بارك” و”فيفث أفينيو” لا طوائف ولا تعتير، تمشي ضئيلاً جداً في التحدي السافر للأبنية المتشاوفة.
________
* شاعرة وكاتبة من لبنان (السفير)

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *