في ذم الثورة..!


يوسف رخا *

عيش 

   جئتُ إلى هنا، إلى هذه اللحظة، من حيث كان وقت ضائع يكفي لملء الكون. هناك، في المكان الذي جئتُ منه، كنا كأننا في برزخ فضائي وإشارات المركبات تومض عشوائياً ككلاب عملاقة من معدن تعوي في الفراغ. كان الكلام معزولاً عن الواقع مثل الأذان: أنكر الأصوات في المكبرات. وكان الواقع نفسه قبيحاً إلى حدّ العمى عن تفاصيله.
النظر مؤلم، والانتظار مؤلم. فهل يهمّ حقاً ما سوى ذلك من “شرط مادي”؟ وماذا يعني القول مثلاً إنك من الطبقة الوسطى؟
لم يكن إلا الأمل في اللحاق بمركبة فضائية تقلّك إلى حيث الواقع أقرب شبهاً بالكلام. غير أني كنتُ قد رحلتُ فعلاً إلى العالم الآخر في زمن مبكر، وحينها عرفت أن لا مساحة لي هناك إلا دروب الملفوظين من مقالب زبالة العالم.
لم يكن وقتٌ ضائع على الإطلاق لكنكَ أنتَ ضائع. لا شيء يعنيك حقيقةً مهما اصطنعتَ الاهتمام. وعلى رغم الاستقرار البادي للوضع السياسي الغائب عن عينيكَ من قبل حتى أن تسافر، قال لك شاب أفغاني: “من مصر؟ آه، لديكم مشاكل كبيرة”. أن تكون مهاجراً: إما أن تكره البيئة المحيطة إلى حد استبصار مقتل أهل البلد على إيقاع تراتيل عقيدتك البائدة، وإما أن يثقل كتفكَ الامتنان الزائف لأن أسرة ميسورة تبنّتك على رغم فقر البيت الذي أنجبكَ في البلاد البعيدة. بالشهادة الجامعية التي وفرت عليَّ تمثيلية التعليم العالي في القاهرة، عدتُ صاغراً، تائقاً إلى ضرورة وجودي أو إمكان أن أعمل شيئاً له معنى، أي شيء.
كنتُ وحيداً بلا سياق، وكان الوقت الفائض عن الحاجة لا يزال. كنتُ أنا أو ربما ليس أنا، ليس تماماً؛ ربما أصدق قليلاً أو أكثر استعداداً للتواؤم. لكن الوقت بات ضاغطاً إلى حدّ صعوبة التنفس. هكذا تعلمتُ أن أبني سياجاً عازلاً حول نفسي، تحاشياً للاختناق. التحقتُ بعمل حكومي منحني دخلاً مريحاً، وأدمنتُ الحشيشة. مع الوقت ظهر ناس يخاطبونني “يا باشا” وانفتحت أبواب الدوائر المسمّاة بديلة. عشت ضاحكاً وأنا أنا، أو لست أنا تماماً.
كان على الصرّاف أن ينتظر إلى أن يفرغ مكتب الصرف ليناولني النقود، حتى لا يرى زملاء الأقسام الأخرى كم أتقاضى عن اتقاني الإنكليزية. وكانت هذه إحدى الأفكار الشائعة عن الثورة: أن يستفزّ تفاوت الدخول مطامع الموظفين.
الثورة هي أن يستفزّ الموظفين فقرهم في مقابل بحبوحة محتملة لدى موظفين آخرين، هنا حيث كل الناس موظفون، وسقف الطموح هو أن يكون المرتب عالياً؛ لا سؤال عن القيمة النوعية للعمل الذي تتقاضي عنه أجراً. الثورة على الفقر، مع الفقراء، لكن بشرط أن يكونوا موظفين؟ بين وقت ووقت، كانت تحدث انتفاضات صغيرة داخل المؤسسات لكنها لا طالبت بتغيير ولا أدّت إليه. الفقراء ظلّوا فقراء وازداد عددهم، وإن أصبح الأغنياء أقلّ وأكثر قبحاً. فإلى أن مات أبي بالتزامن مع هجمة ١١ أيلول تقريباً فانهارت الجدران التي شيّدتها من حولي في وجه الوقت المهدور كدماء لا منتهية تراق على قارعة الطريق، لعلني جرّبتُ نوعاً معطلاً من السعادة. أنتجتُ سياقاً أعمل فيه شيئاً، ما لبث أن تفتّت في لحظة، وكان عليَّ أن أعيد بناءه من لا شيء.
بلا حشيشة، راحت رواسب خوف البوليس المزروع في جسمكَ من قبل أن تصبح باشا، وحلّ فزع الوقت أبشع من فزع الموت. للمرة الأولى أحسست به داخلكَ، في جسدكَ كما في أحلامكَ: ضياع الساعات الذي انساب حولكَ فجأة شلالاً متعدد الاتجاهات؛ وأكّد لك أن الثورة وإن حدثت لا يمكن أن تتبع أهواء الموظفين.


حرية

جئتُ إلى هذه اللحظة من حيث مات أبي فكففتُ مجبوراً عن تدخين الحشيشة. همت مفزوعاً من الوقت الضائع الذي بات داخلي كما خارجي كأنني مصفاة في مائه، أغرق ولا أزال لا أختنق وإن تنفستُ بعرق يدي. وكم تأسفتُ حيال ذلك الحوار المضني مع قبحٍ لم يعد عزله ممكناً، وأنا، شيئاً فشيئاً، أتجاوز الانهيار.
في تلك السنوات بدأت تتجلى ألوان الوقت الضائع في تفاصيل العمل والحياة، أو لعل ما تجلى فعلياً كان أسبابه: الحقائق التي تبقيه ضائعاً وتحرمكَ استعماله في شيء مهما حاولت. اكتشفتُ مثلاً أن الغلاف الخارجي للشيء وحده محط الاهتمام، وحين يكون المحتوى المفترض قيمة أو مبدأ يزداد الاهتمام بالغلاف. لكن المحتوى نفسه لا يمكن حتى وصفه بأيّ صدق تبعاً لشروط التفاعلات المعمول بها، وبحسن نية أحياناً. بوضوح أحسستُ قسوته غير مسبوقة أدركتُ أن تراتبية طبقية أثرية ربما كانت مقترنة ذات يوم بنبل السلالة لم يشبْها إلا انحدار مريع في جودة سلالم الهرم واستعداد متزايد لانهياره دفعة واحدة. إن مساحة لغير التسول والدعارة (والبلطجة الملحقة بهما طبعاً) لم تتسع لأحد. لقد أصبح الوقت ضائعاً لأنه لم يتجدد منذ الأزل، فكل المطلقات بما فيها غير المعلن منها – كالطبقة – لا تزال.
وخلاف التأسلم المتفشي كوباء على كل مستويات الحياة، لا أفق لتجاوز الوضع القائم إلا ذلك الحشد الصغير المهدد من عموم الناس ربما أكثر حتى مما يهدده “النظام” المتأكل – مثله – في شبكات لامنتهية من الدعارة والتسول يحميها عنف مأجور، وهو يطرح كلاماً قديماً وغير مقنع عن العروبة والفلاّحين وفلسطين. ويكرّس أنماطاً من القمع والإقصاء أبشع كثيراً مما تمارسه السلطة السياسية نفسها.
سنة ٢٠٠٣، بامتداد وسط البلد، ذكريات باهتة عن شوارع فُرّغت من المرور وجموع صغيرة من الناس في ميدان التحرير؛ امرأة نحيلة بصوت مبحوح تحاول أن تقنع المتظاهرين بأن لا يتبعوا صفاً منهم يريد أن يوقف زحف المسيرة عند هذا الحد: لا فائدة. تبدو مضحكة وهي تصرخ إن هؤلاء مدسوسون وهم أعداء نضالنا فلا يخرج من فمها سوى ما يشبه الأزيز.
عن مصائب البلاد العربية الأخرى، إذاً، كانت التظاهرة. وكنا في برزخنا الفضائي نرى أن مساهمة حكومتنا في حرب العراق – مثلاً – تستدعي الاحتجاج. لا أظن امرءاً منا سأل نفسه جداً عما يعنيه التدخل أو عدمه، وهل ننحاز إذاً إلى صدام حسين أم هل حقاً نكره الأميركان؟ لا أظن امرءاً منا سأل ماذا يحدث في العراق، أو عن مكاني أنا من سياسات الحكومة بل ومن المجتمع الذي تُطبّق عليه وكل أملي اللحاق بمركبة فضائية تقلّني إلى حيث يسكن “المغول الجدد” كما سُمّي سياسيو أميركا حينذاك.
كانت الثورة تظاهرة وكانت التظاهرة عن أمور غير مصرية (وقد كان خطاب حسن نصر الله ضمن أكثر ما شككني في جدوى ٢٠١١، بداية: “ليتنا كنا معكم”) كانت في جوهرها نضالاً ضد الاستعمار والاحتلال أو كانت مقاومة. ولم تكن ضد الحكومة إلا في حدود ما كانت الحكومة غير مقاومة، وإن ظل التماهي مع العالم الأوسع شرطاً للعيش والاستقرار والحرية بل ولانتشار الأصولية الدينية نفسها.
كانت الثورة نضالاً مستعداً للتحالف مع صدام حسين، وكانت حرباً سنخسرها بالضرورة، وكانت عداء مجانياً لمكان فيه الواقع أقرب شبهاً للكلام. لم تكن ضد انتهاك حقوق الإنسان ونفي حرياته. وكنتَ أنتَ في لحظة زوال المخاوف تعرف. الثورة لا يمكن أن تكون نضالاً.

كرامة إنسانية

جئت إلى هذه اللحظة من حيث أيقنتُ أن النضال، ذلك الخليط المرتبك من القومية العربية والماركسية والطائفية السنية، لم يعد له شغل سوى التخديم على الدين المسيّس أكثر فأكثر كواقع – خرافي، بطولي، رديء، ممسوس بالطبقية والدونية، محكوم بالوقت الضائع – ليس منه فرار. وكان في انحدار جودة الهرم المجتمعي تفسير صعود التدين كاختيار، وإن عكس ذلك التسييس فهو عابر لمستوى الدخل والتعليم، على نقيض ما يقال من أن التأسلم فقر وجهل أو نتيجتهما.
فالأصولية حلٌّ سهل لمعضلة المسؤولية عن الوقت الضائع وهي رد فعل موائم لأعراف محافظة إلى حد التعفن. إنها كما لا يكفّ أحد شباب المنظّرين عن الترديد منذ 2011 حالة “ملحمية”؛ وقد حاولتُ أن أسأله شخصياً عما يقصد بكلمة “ملحمية” فلم أصل إلى شيء. غير أن ثمة ما يقوله الأصولي لـ”الوسطي” وأفهمه تماماً: أنا أصلح منك في كل شيء؛ لطريقتي في التسول والدعارة غطاءٌ إلهي ليس لطريقتك؛ لإحساسي بالدونية شعوبٌ كاملة مستعدة للموت بل وتفضل الموت على الحياة مثلك بلا انتقام؛ ولثورتي على ما نحن فيه أفقٌ أبعد من أيّ فرد، بل أبعد وأرقى من التاريخ الإنساني نفسه.
هكذا يصير الفرد أقلّ من إنسان وأكبر من الإنسانية. هكذا يتحول رفض الحاصل بلا تصور واقعي عما يجب أن يحصل أو كراهية الآخر كبديل من كراهية الذات إلى وقت ضائع من نوع جديد. هكذا يتلاقى “اليسار” القديم نفسه مع الإسلام السياسي، ويتجسد الاثنان في النهاية المقيتة للحظة لعلكَ أمضيتَ عمركَ السابق عليها كله تنتظرها:
لحظة أصبح النضال تضحية حقيقية بالجسد عبر التظاهر بأعداد مقنعة، لا من أجل أحداث بعيدة عن مصر ولا خرافات ضد التاريخ ولا من أجل دخل أعلى بلا عمل حقيقي في الوظيفة الحكومية، ولكن من أجل أن يكون الفرد إنساناً له الحق في التعبير عن النفس، في الرقاد على الأسفلت والغناء، في “الكفر” وفي “الزنى” قبل أن يكون في “الخروج على الحاكم”، وفي ممارسة حياة يريدها بلا حاجة إلى طريق إليها يمرّ عبر أيّ ملحمة كانت؛ لحظة أصبح الفرد قادراً على الخيال…
قبل أن أتلقى الشتائم بوصفي من “فلول النظام الساقط” ومن “الإصلاحيين” في مقابل “الثوريين” عقاباً على ذم ثورة جلبت “الإخوان المسلمين” إلى الحكم وصعدت وساخات المجتمع كأمر واقع “مسنود” وكسرت حاجز الخوف لدى المجرمين فيما التعذيب ينتقل من الأقبية إلى الشوارع – كما قطعت الطريق على التقنين لصالح حياة خالية من ضغائن الدونية ورفض التغيير والعداء للمستقبل – كنت أذهب إلى ميدان التحرير وفي ذهني أن سقوط البطريرك- الديناصور، بتوسيع مجالات العمل والاختلاط، سيتيح لي أن أغادر وظيفتي الحكومية نهائياً، حيث أجد ما يكفيني في العمل الحرّ الذي أحبّه ولا يشعر الصرّاف بضرورة أن يكون مكتب الصرف خالياً…
ماذا أقول لكَ وقد استبصرت ازدهاراً في الاقتصاد عبر السياحة وسواها، وحسبت أن “فزاعة الإسلام السياسي” فعلاً مجرد فزاعة، وحسبت أن لا خوف إلا من البوليس. كنت على استعداد أن تصدّق أن “الجيش حمى الثورة” وأن “الإخوان المسلمين” “فصيل وطني” وأن 25 يناير نقطة انطلاق “مسار تاريخي”… ولا ضرورة الآن للخوض في بلاهتك ولامسؤوليتك حيال ذلك. فقط عليك أن تتذكر أنه كما لم تكن الثورة في المطالبة بدخل أعلى ولا في الاحتجاج على احتلال العراق، فإن الثورة لم تكن في موت الشباب من أجل استبدال عصابة حكم بأخرى أقلّ قدرة على تسيير الحياة.
الثورة لم تكن في 25 يناير. وفي انتظار 30 يونيو كأملٍ واهٍ في إصلاح بعض ما فسد خلال العامين الماضيين – في العودة إلى نقطة الصفر بمعونة المؤسسة العسكرية إن أمكن – عدت تنصت، للمرة الأولى منذ وعيت الحياة، لعواء الكلاب المعدنية. عدت ترى وقتاً ضائعاً يكفي لملء الكون، وفي البرزخ الفضائي المحيط بك مع خطر الموت الآن تتطلع إلى إشارات المركبات الفضائية.
إلى أين تذهب يا صديقي وقد صرت على مشارف الأربعين؟

* النهار

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *