أناييس نن ومي زيادة;العالم مؤنثاً




*شوقي بزيع

أراني في الفترة الأخيرة منحازاً إلى قراءة كتب المذكرات والسير الذاتية أكثر من قراءة الروايات، وقد يكون الأمر عائداً إلى كون السيرة تجمع بين البعد الروائي والسردي المشوق من جهة، وبين استنادها إلى أرض الواقع الفعلي من جهة أخرى، فكل شخص من الأشخاص يستطيع، إذا امتلك ناصية اللغة وتقنيات السرد، أن يكتب رواية واحدة على الأقل هي: سيرة حياته، والسيرة من هذه الزاوية تساعدنا على فهم الظروف المتباينة التي جعلت من أولئك القادة أو الكتّاب والمبدعين قادرين على الإمساك بدفة العالم أو توسيع مساحات الجمال داخل الروح الإنسانية، وقد يكون الوضع معاكساً تماماً إذا ما تعلق الأمر بالطغاة والمنحرفين والمرضى النفسيين، والسيرة أيضاً تسمح لنا بعقد المقارنات الملائمة بين حالة أبطالها وحالتنا الشخصية، بين ما عملوا على استثماره بنجاح في مغامرة العيش، وبين ما يمكن لنا أن نفعله في مواجهة ظروف مشابهة، كأننا هنا إزاء أمثولة الماضي الحقيقي الذي لا لبس فيه، وإزاء العذابات والمتع الفعلية للبشر، لا إزاء حيوات متخيلة يمكن لنا أن نتملص من أقدارها متى نشاء وأن ننسبها إلى الوهم المجرد، ومن يقرأ السيرة الذاتية الرائعة لبابلو نيرود التي وضع لها عنوان “أشهد أنني قد عشت”، أو سيرة الروائي اليوناني الشهير نيكيس كازانتزاكي “تقرير إلى غريكو”، أو سيرة الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز “عشت لأروي”، لا بد له من اختبار ذلك الشعور العارم بالانتشاء، وهو يتابع بشغف محطات وفصولاً من حياة أولئك المبدعين الذين ذهبوا بالشعر والسرد العالميين إلى جماليات إضافية، ومناطق غير مأهولة من قبل .

هذا الانتشاء نفسه قدّر لي أن اختبره أيضاً عبر سيرة الكاتبة الفرنسية أناييس نن التي وقعت بين يدي قبل أيام، وحملت عنوان “اليوميات”، فالسيرة التي نقلت الكاتبة العراقية لطفية الدليمي فصولاً منها إلى العربية تمتاز، كعادة الغربيين في هذا الباب من الكتابة، بالكثير من الجرأة في تعرية الذات، وكشف تمزقاتها الداخلية، والبوح الشفيف بما تكابده من هموم ومشقات .
واللافت في هذا السياق أن صاحبة “مدن داخلية” و”تحت الناقوس الزجاجي” المولودة مطلع القرن العشرين تكاد تكون مجهولة تماماً بالنسبة للقارئ العربي، رغم أن كتبها قد قفزت، إثر وفاتها بمرض السرطان عام ،1977 وتصدرت قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في الغرب الأمريكي والأوروبي .
لا تكتسب “يوميات” أناييس نن أهميتها من أسلوبها المشوق وحده، ولا من صدقها المفرط في الإشارة إلى المهن التي زاولتها المؤلفة، بوصفها عارضة أزياء وموديلاً للرسامين ومساعدة للمحلل النفسي الشهير أوتورانك فحسب، بل من انغماسها الكلي في الحياة والتعبير عن مكنوناتها الأنثوية ونزوعها الغرائزي من دون أقنعة، أو قفازات . ومع ذلك فهي قد حرصت أشد الحرص على عدم الوقوع في شرك البورنوغرافية السافرة التي وقع فيها صديقها الحميم هنري ميلر، على سبيل المثال لا الحصر، مميزة بين الجنوح الأنثوي إلى “تليين” الرغبات الجسدية وربطها بالحب والتأجج العاطفي، وبين النزوع الذكوري إلى الفصل شبه التام بين الغريزة والحب، على أن الكاتبة لم تنغمس في الحركات النسوية المناهضة للرجال، بل عملت بتصميم ووعي مسبقين على التنقيب عن المناطق المشتركة بين الجنسين، باعتبار كل منهما يحمل شيئاً من خصائص الآخر وليس عدواً له بأي حال .
على أن أكثر ما لفتني في حياة أناييس نن هو التشابه الغريب بينها وبين الكاتبة مي زيادة . والتشابه الذي أعنيه ليس متصلاً بالقيمة الأدبية وأسلوب الكتابة، بل بالدور الذي لعبته كل منهما في بيئتها ومجتمعها ومحيطها الثقافي، خاصة وهما تنتميان إلى العصر نفسه تقريباً .
فكما اجتمع حول مي في مصر أبرز كتّاب العربية ووقعوا في عشقها وتنافسوا على كسب ودّها، كذلك كان الحال بالنسبة لأناييس التي تحلق حولها كبار كتّاب الغرب وفنانيه، فهنا نعثر على أسماء من وزن عباس محمود العقاد ومصطفى صادق الرافعي والمازني وغيرهم، وهناك نعثر على هنري ميلر وأنطونين آرتو ولورنس داريل وآخرين، بحيث بدت كل من المرأتين قادرة على تجسيد أنوثة عصرها بامتياز، وعلى الجمع الناجح بين قوة الجمال وسطوة الذكاء الأنثوي .
لا بد من الاشارة أخيراً إلى أن الترجمة الموفقة والناجحة التي قامت بها لطفية الدليمي ليوميات أناييس نن كانت ستؤتي أكلها أكثر لو أن الدليمي لم تقصر ترجمتها على الفصول والجوانب المحافظة والمحتشمة من اعترافات أناييس، بحيث لايرى القارئ أثراً يذكر لكل ما يتعلق برغباتها الجسدية وبوحها الحميم . وربما يكون التشدد المفرط في المجال الأخلاقي قد أدى إلى حجب الجوانب الأكثر دراماتيكية وثراء في شخصية الكاتبة، وقدم للقارئ العربي نصف الحقيقة لا الحقيقة كلها .
_________
*(الخليج)الثقافي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *