الهويّات القاتلة


فخري صالح*

(  ثقافات )



كلّ الهويّات القائمة على نفي الآخرين، واستبعادهم وإقصائهم وعدم الاعتراف بهم، وصولاً إلى شيطنتهم، ذات آثار مدمّرة. فهي لا تؤدي في العادة إلا إلى الحروب، أو على الأقل إلى الاحتقان السياسي والاجتماعي ووضع المجتمعات على نار دائمة مشتعلة من التنابذ والعصبيات والكراهية. إن مفهوم الهويّة نفسه مقيمٌ في وهم التميّز عن الآخرين والتمتع بصفات وخصائص لا يحوزها هؤلاء الآخرون. ولا يحمي الجماعات البشرية، الدول والمجتمعات والجماعات الدينية والطوائف والمذاهب والتكتلات العقائدية، إلخ ما ينتظم البشر من صفات جامعة، من شرور الهويّة إلا أن نقرّ بالطبيعة السائلة للهويّة؛ أي أن الهويّات غير ثابتة ومتغيّرة وقادرة على أن يعدي بعضها بعضاً، أي أنها هجينة لا تتمتع بأيّ نوع من الأصالة والصفاء وتمييز نفسها عن الهويّات الأخرى المجاورة لها أو المتقاطعة معها. 

إن هجنة الهويّات هي حقيقة قائمة منذ أن صارت هناك هويّات وصار البشر ينظرون إلى أنفسهم بوصفهم يتميزون عن غيرهم من حيث اللون أو الأصول الإثنيّة أو المعتقدات الدينية أو المذهبية أو الانتماءات الحضارية أو الثقافية. وقد كانت الحضارة العربية الإسلامية، في لحظات صعودها سواءٌ في مشرق العالم الإسلامي أو مغربه، في بغداد أو في غرناطة، مثالاً مبدعاً على القدرة على تهجين الهويّات، ما أدى إلى تشكّل هويّة عربية إسلاميّة جامعة قائمة على النظر إلى الإسلام بوصفه لحظة حضارية ثقافية قادرة على استيعاب ما أنجزته الثقافات والحضارات الأخرى والبناء على هذا المنجز. 

انطلاقاً من التصوّر السابق يبدو ما يحدث الآن في العالمين العربي والإسلامي مستهجناً وغريباً ومقززاً ومرعباً في الوقت نفسه. فاستيقاظ الهويّات المذهبية وتواجهها واصطراعها سوف يدمّر العالمين العربي والإسلامي ويفتت المنطقة ويجرها إلى حروب مذهبية لا تبقي ولا تذر. نعم، هناك هويّات مذهبية إسلاميّة، سنيّة وشيعيّة وزيديّة وأباضيّة.. إلخ، منتشرة في بقاع العالمين العربي والإسلامي، إلى جانب الهويّات الدينية والإثنيّة واللغوية والثقافية الأخرى، لكن ينبغي أن تتقاطع هذه الهويّات ويثري بعضها بعضاً، لا أن تتصارع وتتقاتل وينفي الواحدُ منها الآخر. 

إن عمليات الشحن الطائفي والمذهبي القائمة الآن على قدم وساق تهدد وجود هذه المنطقة من العالم، وتنذر بحروب مستمرة سوف تأخذ في طريقها كلّ شيء: الاستقرار والثروة وإمكانية التقدم، والأهم من ذلك كلّه حياة الناس ومستقبلهم الذي يبدو رماديّاً غير أكيد. 

المؤسف أن بعضاً من رجال الدين المسلمين، ممن يفترض فيهم أن يكونوا دعاة سلم وتقريب بين المذاهب، ينفخون الآن في رماد الحروب الطائفية والمذهبية، مؤلبين السنّة على الشيعة أو الشيعة على السنّة، وكأن أهل السنة أو الشيعة جماعتان لا تنتميان إلى دين واحد هو الإسلام. المؤسف أيضاً أن الداعية، الذي يفترض فيه أن يدعو الناس إلى التوادد والتراحم والخير والسلم، صار جنرالاً وداعيةً من دعاة الحرب. إن ما نسمعه ونشهده في الفضائيات من عمليات شحن طائفي ومذهبي ودعوات للمواجهة، على ألسنة «دعاة» و»علماء»، سنّة أو شيعة، لا يثير القلق فقط بل إنه لأمرٌ مروّعٌ بالفعل. هذه لحظة انحطاط لم تمرّ بها الأمة العربية الإسلاميّة في أكثر حقبها وعصورها ظلاماً، وعلى أهل العلم والفكر والعقلاء من هذه الأمة أن يقفوا سدّاً منيعاً في وجه هذه الأيديولوجيا المذهبية الفالتة من عقالها والتي توجهها السياسة من كلا الجانبين، وتؤججها القوى الإمبريالية الطامعة في موارد الطاقة في المنطقة، كما تخطط لها الصهيونية العالميّة التي تريد أن تكون إسرائيل هي الأقوى في منطقة رخوة تنهشها الصراعات. فما لهذا نزل الشباب العربي النقيّ إلى الميادين وناضل من أجل إنزال ثقل الاستبداد والطغيان عن أجسادنا وأرواحنا.

– الدستور

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *