ثنَائيّة الغُرْبةِ والوجْدِ فِي ديوانِ” خَريف طِفلة”




* د. أسماء غريب

(ثقافات)

أهل الغربة بين مطرقة الإبداع وسنديان الألم والحنين
لعلّ أكثرَ شيءٍ يقضُّ مضجعَ أهل الغُربةِ فِي مَفهُومِها الوُجوديّ الفلسفي هو قضية الرّجوع إلى الزّمن أكثر منه إلى المكان، وذلك لأنّ الإنسانَ الغريبَ هُو شخصٌ دائمُ الحنين إلى زمنه الماضي، أيْ إلى أيّام طفولتهِ البعيدة وشبابهِ القريبِ. وهُو أيضاً أكثرُ النّاس وعياً بمدَى أهمّيةِ القيامِ بمُواجهةٍ ومقارنةٍ بينَ ما هُو مُمكنٌ وما هو مُستحيلٌ، وبين ما هو كائنٌ ظاهرٌ، وبينَ ما هُو موجودٌ ولكنّه خفيّ في عُمْق أعْمَاق ذاكرتِه الفرديّةِ. وهُو لأجل هذا كلّهِ يُعدّ أكثرَ الناس قدرةً على الرّجوع إلى وطنه الدّاخلي، أو إلى ذاك الوطن المتّصلِ مُباشرةً بالبيتِ الكينوني لكلّ إنسان على وجه هذه البسيطة (1). 
ولعلّ هذا النّوعَ مِن العودةِ إلى الوطن الدّاخلي هو الانتصار الحقيقي الذي حققتهُ بامتياز الشاعرة عواطف عبد اللطيف، في هذا الدّيوان (2)، ذلك لأنّها لمْ تتحدّث عن الغُربةِ بمَفهُومها المُستهلكِ والمُبسّطِ باعتبارها مُجرّد هجرةٍ من مكان إلى آخر، ولكنْ عن المَفْهُومِ العامّ الشموليّ لها وخاصّة منها تلك الشديدة الاتّصال بمفهوم الاغتراب الإبداعي.
الغربة الإبداعية عند الشاعرة عواطف عبد اللطيف
ويُقصدُ بها غُربة عواطف عبد اللطيف كشاعرة، خاصّة وأنّها اختارتْ لنفسهَا أنْ تكونَ عبْرَ الشّعر صلة وصْلٍ بينَ اللاّوجود وعَبَثيّتِهِ السُّريالية، وبينهُ وبينَ اللّغة، وذلكَ فِي مُحاولةٍ منها مَنْحَ هذا اللاّوجودِ وجوداً، وهذه اللّغةِ إيقاعاً له القدرةُ على مُسايفةِ صمْتِ العَالم من حوله ومُقارعة خوائه من كلّ معنى، الشّيء الّذي جعلَ من ثيمة البُعْدِ عنْدَ الشّاعرةِ قضيّة رئِيسَة تتشكّلُ كيْ تُصْبحَ كلماتٍ يتمخّض عنْهَا نوعٌ مُحدّدٌ من المُوسيقى الشعرية النّابعة من تبنّي الشاعرة في معظم قصائد ديوانها لشعر التّفعيلة، وذلك رغبة منها في التعبير عن وعيها بضرورة إقامة حاجز يفصلُ بينها وبين من اختار مبدأ اللاّتحديد والإبهام، وهذا كإشارة منها على مدى عُمق إحساسها بالاغتراب الأدبي والإبداعي في زمن طغى فيه شعرٌ تنبني كلماته على مبدأ التبعثر والتغّميض كمؤشّر لما يعيشهُ الشاعر العربي المعاصر من تبعثر داخلي. 
ووعيُ الشّاعرَةِ بهَذا النّوْعِ منَ الغُرْبَةِ الإبْداعيّة، لا يعْني أبداً أنَّ قصِيدتهَا نبَعَتْ منَ العُزْلةِ بلْ على العكْس من ذلكَ، فنُصُوصُها هِي بالدّرجة الأولى نتيجة مخاضٍ تحققَ داخلَ بوْثقةٍ مِنَ العَلاقاتِ والتّفاعُلاتِ بيْنَهَا كناظِمَةٍ لأبياتها، وبين الكون بكُلّ فُصُولِهِ وأحْوَالِهِ ومقاماتهِ ساكبَة ً كُلّ طُوفانها في مساحةٍ صَغيرةٍ من الوَرقِ. ولربّما القولُ بهذا الأمر يحتاجُ الإجابة عن سؤالٍ على قدر كبير من الأهمّية: ” كيف يمكنُِ لمجموعةٍ بسيطةٍ من الوَرَق أن تتضمّنَ مُحيطاً لا حدّ لهُ من المعاني والكلمات، ومِن الّتاريخِ والتأريخِ لكينونة الجِنْس البشري؟”، والجوابُ طبعاً سيكونُ بأنّ هذا الأمر ممْكنُ الحُدوثِ، فـ”دانتي أليغييري” توصّلَ إلى ذلك، ومن بعده “جاكومو ليوباردي” وكذلك “شارل بودلير” وغيرُهم كثيرون. ولعلّ الشعراء في هذا يتشابهون مع غيرهِمْ منْ أهلِ الفنّ التشكيلي، إذ قدْ يُصادَفُ أن تقعَ عينُ المتلقّي على لوحةٍ صغيرةٍ بألوان قليلةٍ وخطوط بسيطةٍ ولكن فيها تاريخُ شعبٍ بكاملهِ. ولعلّ هذا ما يُفسّرُ هذا التّناسُق والتماسُكَ الموجُودِ في نُصوص الشّاعرة عواطف عبد اللّطيف، وهُو تناسُقٌ يُؤكّدُ ما استطاعتْ عبر السّنين أنْ تحققهُ من توازنٍ ونظامٍ في دواخلها العميقة، ولا أدلّ على ذلكَ من هذا الوّضوح في قامُوسها الشّعري ومُختلف مُصْطلحاتِهِ البَعيدةِ عنْ مبْدَأ التحلّلِ من كلّ منطق وعن مبدأ التهويم الضّائع بين النوم واليقظة والهذيان. ولعّله حان الأوان الآن كي يتمّ تسليط الضوء على نصّ من نصوصها وذلك بهدف إظهار وتأكيد هذا المفهوم، ولربّما يكون نصّ “خريف طفله” هو الأكثر تأهيلا باعتباره أصبح عنواناً للمَجْموعة الشعرية بأكملها 
تقول الشاعرة:
“أنا طفلة ولدت بأحضان الخريفْ
رافقتُ أمّي في الطريقْ
كنتُ المُعينَ لأخوتي
كنتُ المُعلِّمَ والصَّديقْ
وفي المساء
كنتُ الرفيقَ لوالدي 
في بيتنا وفي المَضيفْ
كنتُ الرفيقْ
وملاذُه مِنْ كلِّ ضِيْقْ
دارَتْ بدورَتِها الخطوبْ
وتفَرَّقَتْ فينا الدّروبْ
وتكسَّرَتْ كلُّ السَّنابِلْ
وبّقِيْتُ مِنْ وجَعِ أسائِلْ!
يا أيُّها الزمَنُ اللعينْ..
أين الجميع؟
ما عُدْتُ أسمَعُ صوتَهم
ولَهْوهم وضِحْكَهم
حلّ الشقاءْ…. 
والفجْرُ أصبح كالدّخانْ
وتفرَّقَ الأحبابْ 
في كلّ البقاعْ
كانَ الوداعْ
والليلُ يكسوه السَّوادْ
تُهنا .. فأغرَقَنا الظلامْ
نمنا على حزن الشتاءْ 
أحلامُنا .. ضاعت هباءْ
كَثُرَ العتابُ….
وأمُّنا ،مثل الفراتِ، وحيدةٌ تبكي هناك!
أين الأمانُ…..؟
لينتهِ هذا العذابُ ، ويستكينْ
والحزنُ يَغتالُ الدّموعْ 
أوّاهُ يا هذا الزّمانْ
هلْ مِنْ رجوعْ ؟
عمياءُ في الليلِ الطويلْ
يا حسرتي
يا ليتني …..
عشتُ الطفولةََ والشّبابْ
عشتُ البَراءَةَ والرّبيعْ
والحلمُ ممسوخُ الرّفاتْ
يبكي الصِّحابْ
والمستحيلْ 
من تحت أروِقَةِ السّرابْ
ألمي فظيعْ
لا شيءَ في الدنيا يَدومُ .. 
لكي أضيفَ 
على حروفِ السائلينْ
والتائهينْ
ما بينَ طيّاتِ السنينْ
لمْ يبقَ لي شيءٌ ….
سوى ألقى بليل الصّمْتِ ذكرى الراحلينْ
نبكي الحنينْ
نبكي الفراقْ
لم يبقَ لي غيرُ الدُّعاءْ”
القصيدةُ تتكوّن منْ ثلاثة أزمنة، وذلكَ وفقاً لما سبقتِ الإشارةُ إليهِ من نظريّةِ ميْلِ الإنسان “الغريب” إلى التحرّكِ داخل الدّائرةِ الزّمنية لأنّها تعْني لهُ أشياءَ أخْرى تفوقُ في أهميّتها ماهية الدائرة المكانيّة بكثير. والأزمنة الثلاثة يُقصد بها: مرحلة قبلية، وأخرى وسطية، ثم ثالثة بعدية.
ـ المرحلة القبلية:
ويمكن تحديدها في التسْعَة أبياتٍ الأولى كمَا يلي:
“أنا طفلة ولدت بأحضان الخريفْ
رافقتُ أمّي في الطريقْ
كنتُ المُعينَ لأخوتي
كنتُ المُعلِّمَ والصَّديقْ
وفي المساء
كنتُ الرفيقَ لوالدي 
في بيتنا وفي المَضيفْ
كنتُ الرفيقْ
وملاذُه مِنْ كلِّ ضِيْقْ”
على عكس ما قد يتبادر لذهن القارئ من حضور لشكوى أو ألم في هذا المقطع الأول من القصيدة، فإن قلب الشاعرة هنا يرقص فرحاً وهي تسرد للمتلقّي كلّ الأشياء والأعمال التي كانت في الماضي مصدراً لسعادتها، فهي الطفلة الصّالحة الّتي كانت سندَ والديها، تساعدهما على تحمّل أعباء الحياة وتعيل معهما بقية أفراد أسرتها الصّغيرة الكبيرة، فهي منذ صغرها كانت أب أمّها وأمّ أبيها، وهي بهذا تُعبّر عن رغبة دفينة في العودة إلى القيام بما كانت تقوم به فيما مضى، لو تُسعفها فقط الأيّام والظروف، لكنّها أكثر النّاس معرفة بأنّ هذا أمر مستحيل، وإلا ما كانت أدرجت بوعي كبير في المقطع الثّاني من القصيدة قاموساً من الكلمات الدالة على الحزن والألم وذلك حتّى تهيّء القارئ إلى القادم من الفواجع والآلام في الأبيات الباقية. 
من هذه القراءة المُبَسّطةِ للمقطعِ، تبدُو المعاني وكأنها عادية جدّا، ولا جديد فيها، فهي تحكي عن قصّة امرأة عانت من تغيّر أحوال الزّمن من حالٍ أحسن إلى آخرَ أسوأ، إلاّ أنّه على الرّغْمِ من بساطة هذا المعنى المؤدّى، ثمة أمورٌ تجعلُ من هذا المقطع مشحوناً بمعاني أخرى عدّة وخاصّة جدّاً، إنّها معانٍ تشقُّ طريقهَا مُبَاشرةً إلى القلبِ باعتباره عُضواً للمَعْرفة والمَعَاني الحيّة الغيْر المُجرّدة. ولعلّ أوّل هذه الأمور هِي البناءُ الخاصّ بجسدِ القصيدةِ ومَا يحْويه منْ عَلاقاتٍ صُورية لكلماتٍ مُرتّبة ترتيباً نحوياً جميلا جعلَ منْها جُملا فعليّة تتحرّكُ داخل الزمن الماضي عبْرَ فعْلِ “كان” الذي تكرّر في صيغة المُتكلّم لأزيد من ثلاث مرّاتٍ، غير أنّ هذا السّحر الجماليّ الموجود في كلماتِ هذا النّص، لا ينطلقُ فقط من طبيعةِ نظامِ وترتيبِ جُمله بما تحملهُ من أفعالٍ ولكن من شيء آخر لا علاقة لهُ لا بالجُمل ولا بإعرابها وهو الجرسُ الموسيقي الذي تتركهُ الكلماتُ عند القارئ وهو يُلقيها بِصوْتٍ مُرْتفع، هذا الجرسُ أو المُوسيقيّة النّابعة مِنْ قوافي هذا المقطع والمُتوزّعة بيْنَ حرْفي الفاءِ والقافِ ومدِّ ياء المتكلّم. الشيء الذي يدْفعُ إلى طرْح التسّاؤل التّالي: هل ثمّة علاقة بين تركيب هذا المقطع من القصيدة وجَرَسِهِ المُوسيقي وبين قدرته على تأديّةِ معنى آخر بهذا الحجم من الكثافة والتّركيز والدّقة بشكل يجعلهُ يخالف معناه العادي البسيط جدّاً؟
إنّ الجوابَ لا يَكمُنُ في إعادة قِراءةِ المَقطع مَرّة أخرى فقط ولكن في تجسيده عبر الرّسم التخطيطي:
كما يُلاحَظ فإنّ الرّسم حاول التّركيز بشكل أكثر على المَعاني التي خرجت من بين ثنايا الكلمات وجرسها مُسلِطاً الضّوءَ على مجموعةٍ من العناصر التي لم تكُن لتتوضّح إلاّ عبر القراءة بصوتٍ عالٍ لأبيات النّص، وفي هذا القول دعوة لك أنت أيضاً أيّها القارئ للقيام بنفس العمليّة منذ أول بيتٍ إلى آخر بيتٍ (3) كي تجد بأنّ أوّل صوتٍ قويّ في هذا المقطع بل في القصيدة برّمّتها هي ضمير المُتكلّم المُنفصل: “أنا” والوارد في هذه الجملة التّي يجب تحليلها جزءاً جزءاً:
“أنا / طفلة / ولدت / بأحضان/ الخريفْ”
أنا:
في نحويّة الذّات وشؤون تصريفها وإعرابها، تُعدُّ “أنا” هي القاعدة العامّة التي تقوم عليها كلّ قواعد النّحو البشرية، لأنّها تسلّط الضوء على هويّة الإنسان، وعلى علاقة هذا الأخير مع الآخر والغير حاضرا كان أو غائباً (أنت / أنتم / هو / وهُم)، حرفان لا غير (الألف المتكررة لمرّتان والنّون) يختزلان العالم بأسره، وإذ تستهلُّ الشّاعرة عواطف عبد اللّطيف بهما نصّها فهي على وعي كبير بما في حرفي هذا الضمير المنفصل من استدعاء للكوجيطو الدّيكارتي والأنا الكانطي، واللاّوعي الفروديانيّ. فعلى مستوى الكوجيطو الدّيكارتي، فالشاعرة تعتمد في استخدامها لمصطلح “أنا”، على ميتافيزيقية الذات الشعرية باعتبارها نظاماً منطقياً تقوم فيه الأنا بدور الشاهد على كلّ الموجودات المحيطة بما فيها الطبيعة الأمّ مشركة إيّاها في الفعل والحركة ولا أدلّ على ذلك من حضور عناصر مختلفة تؤكدّ هذا التفاعل وتتمثل في المصطلحات التالية: (الخريف، الطريق، المساء).
حضور هذه العناصر هو الذي سمح بتقسيم المقطع أعلاه إلى زمنين: زمن الأمّ (وقد رُمز إليه في الرسم بعنصر “الشمس”) أو الزّمن المُنير الذي كانت الذّات الشاعرة تنعم فيه بسعادة التآلف والهناء مع والدتها وباقي أفراد أسرتها في بيت الطفولة البعيد:
“رافقتُ أمّي في الطريقْ
كنتُ المُعينَ لأخوتي
كنتُ المُعلِّمَ والصَّديقْ”
وزمن الأب (وقد رُمز إليه في الرّسم التخطيطي بعنصر “القمر”) أو الزّمن الأبيض الوضّاء الذي كانت تقضيه مع والدها: 
“وفي المساء
كنتُ الرفيقَ لوالدي 
في بيتنا وفي المَضيفْ
كنتُ الرفيقْ
وملاذُه مِنْ كلِّ ضِيْقْ”
وإذ تمّ تحديد زمني الأمّ والأب، تطفو فوق السّطح ومن لاشعور كلمات الشّاعرة، صورةٌ يوسفيّة، فيها إشارة لعبارة النبيّ يوسف (ع): “يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ” (4). والقول بهذه الإشارة يُراد منه بشكل رئيس استخراج عنصر الألم والخيبة التي تكون قد مُنيت بها الشاعرة بعد غروب زمن الأمّ والأب، وبعد المرور من مرحلة الضوء إلى مرحلة الانكسار الذي بلغ ذروته داخل النّص عبر تساؤل الشاعرة الصّارخ: (وأمُّنا، مثل الفراتِ، وحيدةٌ تبكي هناك! / أين الأمانُ؟ / أين الجميع؟ هل من رجوع؟)، وهي كلّها أسئلة تدور في فلك الأنا الديكارتي، الذي يقوم على التّشكيك في كلّ شيء بهدف الوصول إلى جواب قد يكون مُرضياً إلى حدّ ما في زمن ربّما قادم في القريب العاجل، ممّا يعني أن الشاعرة بأناها الديكارتي لا تنفصل أبداً عن أناها الكانطي الواعي جدّا بحالة اغترابها وغربتها والّذي عبّرت عنه بشكل بليغ في قصيدة أخرى أسمتها بـ “غربتان” (5) حينما قالت:
“وحقّ القـولُ: إنّ البعدَ قهرٌ
ونار القهرِ.. تشعلها الخطوبُ
فقد رحلَتْ عن الروح الأماني
وما أبقى سوى الطللِ المشيبُ
وإن فرشوا لي الأرضين ورداَ
فلو حلّ البيان .. أنا غريبُ
أفتش في طلوع الشمس عنهم” (6)
طفلة:
لا تريد الشاعرة بإدراجها لهذا المصطلح تحديد عمرها البيولوجي، لأنها لم تستخدم من النّاحية الصرفيّة والنحوية الزّمن الحاضر عبر صيغة “الأنا” إلاّ كي تتحدّث عن زمن ماض، تفصلها عنه سنين عدّة، ولكنّه لمْ يزلْ حاضراً في ذاكرتها وكأنّه لحظة حيّة دائمة، لم تمحها السنون ولا حتّى الخطوب، إلاّ أنّ الجملة التي تلي عبارة “طفلة” هي التي تثير بعض القلق المعرفي، ويقصد بها: 
ولدت في أحضان الخريف:
هل حقّاً وُلدت الشاعرة عواطف عبد اللطيف في فصل الخريف؟ إذا كان الجواب نعم، فالجملة ستصبح كأيّة جملة أخرى تحمل معلومة عادية جدّاً عن ولادة إنسان ما في فترة معيّنة من فصول السّنة، وهذا لن يخدم بأيّ شكل من الأشكال الجانب الإبداعي في النّص، لأنّه سيبسّطه جدّا ويجعل منهُ مجرد أحرف لا شيء فيها يذكرُ لا من حيثُ مبدأ الشّعرية ولا من حيثُ البناء الفلسفي والمعرفي للقصيدة بشكل عام. لذا وجب وضع فرضية ميلاد الشاعرة في فصل الخريف جانبا من أجل العمل على رمزية فصل الخريف في الدّيوان بكامله، وعلى مدى علاقته بالشاعرة ومدى علاقة هذه الأخيرة بالطبيعة وببقيّة عناصرها التي تمّت الإشارة إليها سابقا وخاصّة منها “الشمس والقمر” مع افتراض أنّها لم تولد بتاتا في هذا الفصل ولربّما تكون قد ولدت في فصل آخر ربّما يكون أقرب منه إلى فصل الصيف؟
ولعلّ القراءة السّابرة لخبايا النّص هي التّي ستسمحُ للدّارس بتأكيد هذه الفرضية أو نفيها، خاصّة وأنّه لا يبدو أبداً أمراً منطقياً ولا جمالياً القول بوجود نيّة مبيّتة لدى الشاعرة في إعلانها عن عمرها البيولوجي ولا عن شهر ميلادها في نصّ من المُفترض أن يكون شعرياً لا سيرة ذاتية، وتأكيد هذه الأطروحة يوجد أيضاً في بقيّة قصائد الدّيوان التي تنضح بقاموس من المصطلحات والتعابير الدّالة على غلبة عنصر الألم وبالتالي غياب عنصر الضوء فيصبح الخريف بهذا ليس فصل ولادة حقيقية ولكن رمزاً لوعي الشّاعرة بالسواد الذي عمّ العالم ولم يزلْ من حولها. وليس هذا فقط فتحليل المقاطع المتبقية من القصيدة لن يقود إلآّ إلى الجزم بأنّ الذي حدث هو وعيُ عواطف عبد اللّطيف بذاتها كحاملة لشعلة من الألم في قلبها وهذا ما يسمّيه أهل العلم بـ” الفجيعة الرّوحية” أو بنهاية العصر الذهبي للطّبيعة الّتي هي جسد الذات الشعرية التّي تصبح وبمجرّد تحديدها لآفة غياب نور الشمس، وعاءً حاضنا لكلّ شيء ينتمي إليها وتنتمي إليه وذلك عبر استخدامها لعبارات تصبّ في هذا المضمون والمعنى كمثلا (ولدت في “حضن” الخريف)، أي أنّها تحتوي الخريف وتحضنه وتحتوي نفسها وكلّ عناصر جسدها الكوني، ثم عبارة (كنتُ “ملاذه” من كلّ ضيق)، ناهيك عن حرف الجرّ “في” الذي يفيد الدخول في الشيء وقوة الانتماء والحميمية التي تربطها به، وهذا الحرف تكرّر على طول النّص أكثر من سبع مرّات، دون نسيان “نون الجماعة” التي حلّت مباشرة بعد المقطع الأول من القصيدة مكان “ياء المتكلم” (انظر عبارات: في بيتنا/ وتفَرَّقَتْ فينا الدّروبْ/ تُهنا/ فأغرَقَنا الظلامْ/نمنا على حزن الشتاء/ أحلامُنا .. ضاعت هباءْ). 
فكيف أصبحت الذات الشعرية جسداً كونيا حاضنا لكلّ عناصر الطبيعة وما الدليل على ذلك؟
عمليّة جرد لكلّ المصطلحات التي لها علاقة بالطّبيعة فيها إجابة سريعة عن هذا السؤال. وهذه المصلحات يمكن تقسيمها إلى جزء له علاقة بالتجسّدات الزّمنيّة لفصل الخريف وأخرى لها صلة عميقة بالقاموس المادّي للفصل ذاته:
العناصر الزّمنية
ـ دورتها/ الزّمن/ الزّمان/ السنين/ المساء/ اللّيل 
العناصر المادّية
(الأسماء) 
ـ الدّروب/ الطّريق/ السّنابل/ الرّفات/ السّراب/ الخطوب/ الدّخان/ الوداع
وهي كلّها أسماء لها صلة وثيقة بصورة الغلاف، التي تحمل كلّ هذه العناصر بأوراقها المصفرّة السّاقطة والتي حلّت محلّها في النّص (السّنابل المتكسّرة)، وسكتّها الحديدية التي ترمز إلى هجر كلّ ما له علاقة بآلام الماضي رغبة في إيجاد طريق آمنة للعودة إلى الوطن الدّاخلي للذات الشعرية.
(الأفعال)
ـ تفرّقت/ تكسّرت/ تُهنا
في ذكر الشّاعرة لهذه الصّيغ الفعليّة وتكرارها لها بأكثر من شكل نوعٌ من الرّفض الباطني لما حدث، فهي لا تقبلُ مظاهر التفرقة والانكسار واصفرار الأوراق، وتحطّم السّنابل، لذا هي في هذا تشبه الطبيعة الأمّ التي تعكف على نفسها في فصل الخريف كي تستمدّ طاقتها من أعمق أعماق الأرض مُظهرة قوّة وقدرة خارقة على العودة إلى الحياة من جديد بعد أن تكون قد عرّجت على مرحلة أخرى من مرحلة استعادة الذات وشحنها بإرادة من حديد، وهذه المرحلة هي ما يسمّى في قاموس الطبيعة بفصل الشتّاء، وليس من قبيل الصّدفة أبداً أن تورد الشّاعرة هذا الفصل في قصيدة لا تتحدّث إلاّ عن الخريف، وهو أمر شديد الصلة بما سبقت تسميته بالمرحلة “الوسطية” والتي لابدّ من الوقوف عند مفهومها وتداعياتها داخل النّص:
ـ المرحلة الوسطية:
تقول الشّاعرة:
“نمنا على حزن الشتاءْ 
أحلامُنا .. ضاعت هباءْ
كَثُرَ العتابُ….
وأمُّنا ،مثل الفراتِ، وحيدةٌ تبكي هناك!
أين الأمانُ…..؟
لينتهِ هذا العذابُ ، ويستكينْ
والحزنُ يَغتالُ الدّموعْ 
أوّاهُ يا هذا الزّمانْ
هلْ مِنْ رجوعْ ؟
عمياءُ في الليلِ الطويلْ”
يبدو أنّ الشّاعرة تتوجّه في هذا المقطع من القصيدة إلى “أشياء” معيّنة لا لكي تُكوّنَ عنها أفكاراً بل لتكتشف نفسَها من خلالها وهي تُمعن في دواخلها النظر، ولعلّ هذا ما جعل من هذا المقطع يظهر وكأنّه مقلوباً، أي وكأنّه يعني شيئا آخر غير ذاك الذي يوحي به المعنى السّطحيُّ للمفردات، حتّى ولكأنّ الكلمات فيها ضوء داخلي لأنّها استُعملت كأحداث حسّية امتدّت فوقها ألوان مختلفة أخرى. وفي هذا القول نداء ضمني لتدقيق النظر في الأنا الاغترابي للشاعرة والذي ما من فراغ أخذ شكلا دائريا في الرّسمين التخطيطين الأول والثاني، باعتبار أن الذات الشعرية هي المركز وبالتالي هي كهف الأنا الاغترابية التي ستستقطب كلّ من يحيط بها من “أنوات” أخرى ستُحوّل الخطاب من ياء المتكلّم إلى نون الجماعة، ومن “أنا” البُنوة إلى “أنا” الأمومة: (أنا طفلة/ وأمُّنا ،مثل الفـُراتِ، وحيدةٌ تبكي هناك!)
والحديث عن كهف أنا المتكلم ونون الجماعة فيه حديث عن فصل الشتاء والمتجسّد في هذه الأبيات من القصيدة:
نمنا/ على حزن الشتاءْ
///
وأمُّنا …/ وحيدةٌ تبكي هناك! (6)
///
عمياءُ في الليلِ الطويلْ
الكلمات المسطورة في هذين البيتين هي من نفس المادّة النُّسغية التي تشكّلت منها الدّائرة الكهفية للأنا البنوي والأنا الأمومي وهذا ما يمكن إيضاحه كما يلي:
الكهف:
النوم/ نمنا (وهو نوم جماعي/ لاحظ “نون الجماعة”) 
الرّجوع إلى الذات/ (وفي هذا تقوقع الرّوح داخل فصلها الشتائي)/ على حزن الشتاء
الوحدة والبكاء/ وأمّنا…وحيدة تبكي هناك/ (دون إلغاء ذاك الحبل السّري الذي يربط بين الأنا الأمومي والأنا البنوي والأنا الجماعي المتفرع من كليهما)
سيطرة السّواد وفقد الإدراك البصري المادّي (وفي هذا دلالة على عمق عمليّة التقوقع والولوج العميق داخل كهف النّفس).
وفي كلّ هذا تجسّدٌ واضح لكلّ مظاهر الشتاء باعتباره رمزاً لبداية التّحول الداّخلي للرّوح الكونيّة من حالة اللاّوعي إلى حالة الوعي، ومن الموت إلى الحياة، ومن حالة السّواد إلى حالة البياض، هذا البياض الذي سيحاولُ تتبع أثره وكيفية انبلاجه عبر ما سبقت تسميّتها بالمرحلة البَعْدية.
المرحلة البعدية:
تقول الشّاعرة عواطف عبد اللّطيف في الجزء الأخير من نصّها:
“ألمي فظيعْ
لا شيءَ في الدنيا يَدومُ .. 
لكي أضيفَ 
على حروفِ السائلينْ
والتائهينْ
ما بينَ طيّاتِ السنينْ
لمْ يبقَ لي شيءٌ ….
سوى ألقى بليل الصّمْتِ ذكرى الراحلينْ
نبكي الحنينْ
نبكي الفراقْ
لم يبقَ لي غيرُ الدُّعاءْ”
وصل المخاض الرّوحي ذروته (ألمي فظيع)، ودخل جسد الذات الشعرية إلى مرحلته الحديدية، والحديد هو المحرّك الخفيّ والرّمز الرّئيس لفصل الخريف الكوني الذي ما فتئت الشّاعرة تشير إليه وتتحدّث عنه، كردّ منها على الرّمز المادّي لـلتقدّم الصّناعي للإنسان الذي دمّر بالحديد المادّي حضارته وتاريخه وإنسانيّته، فأصبح لزاماً على كلّ امرئ أن يلجأ إلى منجم نفسه كي يستخرج منها حديدها الرّوحي عبر شحذ الإرادة بقوّة تمكّنه من الانتصار على حزنه ووحدته وغربته الأبدية، وهذا ما قامت به فعلاً الشّاعرة عواطف عبد اللّطيف، عبر وصولها إلى مرحلة الجسد الياقوتي الذي يشعُّ منه وهج الحديد الكوني الذي ألهبته الحياة بتجاربها القاسية، وما من فراغ أشارت الدكتورة ناهدة محمد إلى هذا الجانب الصّلب في شخصية الشاعرة عواطف عبد اللّطيف المتمثل في مختلف أنشطتها الثقافية والإنسانية والمهنية التي أعطت لحياتها بعد سنوات المحنة معنى أكثر قوة وشجاعة (8) ويؤكدّ بالتّالي هذه المرحلة التي وصلت إليها الشاعرة عبر دخولها دائرة النّور الإلهي المؤيّد بالدّعاء(لم يبقَ لي غيرُ الدُّعاءْ).
2) الوجد وآثاره الخلاّقة عند الشاعرة عواطف عبد اللّطيف
ها قد تمّ الوصول إلى المرحلة الحديدية الدّاخلية لكهف الأنا الكانطي والدّيكارتي للشّاعرة عواطف عبد اللّطيف، لكن ماذا بعد هذا؟ هل من انتصار على ما دمّره الحديد المادّي الصّناعي وآلاته الحربية التي أتت على الأخضر واليابس في كلّ بقاع الأرض؟ 
الجواب يوجد في الأنا الفروديانيّ للشّاعرة أو الأنا الشاهد على هذه الحالة الفريدة من الوجد التي أدخلت عواطف عبد اللّطيف في دائرة عجيبة من الحميمية كي تضمن لها التواصل مع ذاتها الكونية عبر ذاتها الفردية، باعتبار أنّ كلّ إنسان هو جزء لا يتجزأ من نظام الكون العجيب يؤثر فيه ويتأثر به.
صور الوجد
نهر الفرات
منذ نصّ “خريف طفله” والشّاعرة تشير إلى هذا العشق وما يصاحبه من ألم ووجد سيطر على كيانها وأسر قلبها ملقيا بها في عالم من الحزن ، إلى أن أضحت كالصّبّ الذي أصيب بكمد الهيام والحسرة على زمن كان ينعم فيه بفيوضات الابتهاج والغبطة والسرور لقربه من المحبوب، هذا المحبوب الذي هو في وجدان الشاعرة لا كصورة بشرية فقط وإنما كصورة ترابية مائية، جمعت بين اليابسة والماء، وإذ يتمّ ذكر الماء فإنّ في هذا إشارة إلى بيت شعري، كانت قد أشعلت فيه الشاعرة فتيل السؤال ويُقصد به:
وأمُّنا ،مثل الفراتِ، وحيدةٌ تبكي هناك!
الفرات قبل أن يكون رمزا للهويّة والانتماء فإنّه نهر عظيم قيل عنه أنه نهر مقدّس من أنهار الجنّة الأربعة: “…وَكَانَ نَهْرٌ يَخْرُجُ مِنْ عَدْنٍ لِيَسْقِيَ الْجَنَّةَ، وَمِنْ هُنَاكَ يَنْقَسِمُ فَيَصِيرُ أَرْبَعَةَ رُؤُوسٍ: اِسْمُ الْوَاحِدِ فِيشُونُ، وَهُوَ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضِ الْحَوِيلَةِ حَيْثُ الذَّهَبُ. وَذَهَبُ تِلْكَ الأَرْضِ جَيِّدٌ. هُنَاكَ الْمُقْلُ وَحَجَرُ الْجَزْعِ. وَاسْمُ النَّهْرِ الثَّانِى جِيحُونُ، وَهُوَ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضِ كُوشٍ. وَاسْمُ النَّهْرِ الثَّالِثِ حِدَّاقِلُ، وَهُوَ الْجَارِي شَرْقِيَّ أَشُّورَ. وَالنَّهْرُ الرَّابعُ الْفُرَاتُ” (9) 
وكون الشاعرة ربطت اسمه بمصطلح “الأمّ”، ففي ذلك إشارة لرمزية العطاء والتغذية والقوت، فكما الأمّ تغدق بحنانها وغذائها على أبنائها، فأيضا الفرات، ومن هنا ينبلج سؤال آخر يهم مفهوم البنوة والأخوة عند الشاعرة عواطف عبد اللطيف: فكونها كانت تتحدث عن إخوتها وأمّها وأبيها منذ بداية نصّ “خريف طفله” فهذا أمر واضح، لكن ماذا عن الوجه الآخر لمفهوم الأسرة لديها، أيْ ماذا عن مكانة الأسرة الصغيرة داخل الأسرة الكبيرة، أي إخوتها الآخرين من أرض العراق؟ الجواب يوجد في نون الجماعة التي حلّت مكان ياء المتكلّم وفي رمزية نهر الفرات، إذ لا يعقل أن تكون صورة الأم وهي تبكي كالفرات، رمزا لمفهوم فردي لأمّ واحدة، ولكنّها العراق بأسرها، الأمّ الكبيرة التي تبكي كما الفرات على ما حلّ بأرضها وبأبنائها من شتات وفرقة، وبالتالي يصبح جسد الذات الشعرية نفسه هو أرض العراق، ويصبح بعد ذلك جسد العراق هو الأرض الكونية، باعتبار أنّ ما من شيء يمسّ هذا البلد إلا وتكون له تداعيات خطيرة تؤثرّ بشكل أو بآخر في مصير كلّ بقعة من بقاع هذا الكوكب العائم في خوائه العظيم. 
العراق، أو الأمّ التي تبكي أبناءها، والفرات، الأب الذي بكى ولم يزل أبناءه إلى أن جفّ ماؤه وشحب وجهه وابيضّت عيناه من شدّة الكمد، ودخل كما الشاعرة إلى كهفه الشتائي يتحسّر على ما كان من فرح وسرور وخضرة وجمال وفيض وعطاء أيّام الهناء والبياض. فهل من سبيل تعيد للفرات وهجه وللأرض الأمّ أبناءها؟ و”هل من رجوع” كما تقول الشّاعرة؟
في المقطع الثاني من قصيدة “بغداد”(10) جواب عن معضلة هذا السّؤال:
في هذه القصيدة أسرَتِ الشّاعرة السّماءَ والأرضَ في قفص الكلمات وشكلها المحسوس، مُحدثة انسجاماً خلاّباً وخارقاً بين الحروف ومعانيها، وجعلت النّص كلّه يفيض بحالة عاطفية غير عادية، نابعة ليس من سحر إيقاع الكلمات وصوت القافية فقط، ولكن من شيء آخر يسكنُ فعلَ المَعَاني وبنَاءَها بشكلٍ يتطلّبُ من الدّارس نوعاً جديداً من التّفحّصات الفلسفيةِ والنّفسيةِ والنظريّاتِ الجماليّةِ التي تحتفي بالمشاعر الإنسانية المتوهّجة والمُحترقة بنار الحُبّ والوجد عبر تبنّي الشّاعرة تقنية تخليق جديدٍ لمفهوم الصُّور الشعريّة ولمَدى تأثيرها الخلاّق على المتلقّي، خاصّة منها تلك ذات الصّلة بالعشق المتوهّج الذي يربط روح الشاعرة ببغداد، فلماذا بغداد إذن؟ 
بغداد القلبُ السّفينة 
تقول الشاعرة:
“بغـدادُ يــا نـبـضَ الـفـؤادِ وعشـقَهُ
آن الأوانُ لـتــبــحــري لـعــنــاقــي
نبـضُ الحـيـاةِ بموطـنـي وربـوعـِهِ
مـــا فـارقــتْ قـلـبـي ولا أحــداقــي
مـا أجمـلَ الشـوقَ الكبيـرَ بخافـقـي
إذ قـادنـي ظمأي لنبعي الـسّـاقـي
يجري بأوردتـي ويسـري فـي دمـي
ليـنـيـر قـلـبــي سـاكـنــاً أعـمـاقــي”
ثمة شيء شبيه بدوران الأرض في هذا المقطع، شيء كالرّيح التي تسبق دورة تغيُّر الفصول داخل الذات الشعرية، بعض من المطر وبعض من البرق، شيء أقرب منه إلى المعرفة، شيء هو التجربة الإنسانية الحيّة، شيء هو الحبّ الذي أخرجته إلى النّور هذه الصور المتزاوجة التي تصل إلى القلب ، هذا القلب الذي يصبح هو بغداد ذاتها، بل يصبح السفينة التي عليها أن تبحر نحو الأنا الفرودياني للشّاعرة والأنا الجمعي الذي يتفرّع عنها، كي تغسل بقوة العناق أو التلاقح ما علق بالرّوح من ألم، لذا تجد عواطف عبد اللطيف تلعب على هذا الوتر الحسّاس من العاطفة البشرية عبر توزيعها لمجموعة من كلمات تدور وسط ثلاثة أفلاك متوازية ومتناغمة في الحركة والفعل، فلك القلب وفلك العين، وفلك السفينة:
فلك القلب: 
ويقصد به الجهة المسؤولة عن ضخ دماء الحياة في كلّ الجسد الكوني للذات الشعرية، أمّا الكلمات التي تدور فيه فهي كالتالي:
(نـبـضَ الـفـؤادِ/ نبـضُ الحـيـاةِ/ مـــا فـارقــتْ قـلـبـي/ بخافـقـي/ بأوردتـي ويسـري فـي دمـي/) 
فلك العين:
ويُقصَدُ به الفلك الذي سكنت في شبكته البصرية صورة بغداد، فتخزّنت في ذاكرته المرئية، ومنها مرّت عبر الصور المتداعية من زمن البهجة والمحبة لتسكن بعد ذلك شغاف القلب وإلى الأبد، وقد عبّرت الشاعرة عن كلّ هذا الزخم من المعاني بالكلمات التالية: (ولا أحــداقــي/ إذ قـادنـي ظمأي لنبعي الـسّـاقـي/ )
فلك السفينة:
وهي صورة تولّدت من تزاوج القلب والعين وتمازج دم الأول بدموع الثانية، فغدت بغداد لذلك هي من تحجُّ وتأتي للقاء الذات الشعرية لا العكس (آن الأوانُ لـتـبحـري لعـناقـي)، وصارت بذلك سفينة تجري في بحار الشوق وتحمل كلّ صور العشق التي سطّرتها الشاعرة في كل بيت من أبيات هذا المقطع من القصيدة كما هو موضّح في الرّسم التخطيطي:
بغداد، أو الدّار التي يحنّ إلى بلوغها الجميع، عراقيا كان أم لا، بغداد أو دار السّلام، التي أغمدتها الشاعرة في قلبها (بـغـدادُ ..يــا حـبـّي الــذي أغـمـدتـُهُ / في الصدرِ ..وحدَكَ أنت حبي الباقي)، فأصبحت فيه جنّة ترنو إليها كلّ الأفئدة، لأن فيها ستمحى كلّ الأحقاد، وستغسل كلّ الآلام، وسيعود الإنسان إلى بياضه الأول:
” حان الإيابْ…
لنشمَّ رائحة الهواءْ 
شوقاً لأحضان الجبالْ 
شدّوا الرحالْ 
النصر آتْ
لنُعيد للأيام خطة سيرها 
ندعو إلى ربٍّ ودود ْ
للعدل نأمل أن يسودْ 
ونعود للبيت الكبير ْ
وقت الأصيلْ
نمشي على صوت الدفوفْ
عند اللقاء ْ
بعد العذابْ
كفّي يحنّيها الترابْ
وسأرتدي ثوب الزفاف مجدداً
وسأرتوي بعد الجفافْ
فيعود للقلب المُعنّى نبضه
مثلَ الخلود معانقاً نبض الشهيدْ
ويضيء دربي بالوصولِ..
وبعدها لا لن أقولَ ولن أزيدْ” (11)
_______________________
الهوامش:
J. Starobinski, Il concetto della nostalgia, tr.it in Prete A. (a cura di), Raffaello Cortina, Milano, 1992, Pp. 85-86.
عواطف عبد اللّطيف، خريف طفله، دار الحوراء للطباعة والنشر، بغداد، 2012
هناك من النّصوص ما هو مفهوم للأذن أكثر منه للعين، وهي الفكرة نفسها التي كان ينادي بها الشاعر الإيرلندي “جيمس جويس” عبر القراءة الجهرية للنّصوص الشعريّة معتبراً أنّ طريقة ترتيب الأصوات إن لمْ تُساعد بشكلٍ أو بآخر على تركيز المعنى أو مضاعفته داخل نصّ ما فإنها قد تساعد على الأقلّ في تحديد معناه الأولي، مع الأخذ بعين الاعتبار طبعا أن القراءة الجهرية لن يمكنها وبأيّ شكل من الأشكال أن تغيّر أصوات الكلمات إلا بالطريقة التي يكون فيها المعنى قادراً على اتباع هذا التغيير، ذلك أنّ الأصوات التي تنبع من الكلمات، أصبحت ومنذ قرون طويلة جدّاً تحملُ معانى تلك الكلمات لدرجة أنّه لم يعدْ من الممكن استعمالها في نصوص أخرى دون أن تدلّ على المعنى ذاته ولكي تفقد هذا المعنى عليها أن تفقد الكلمات نفسها.
القرآن الكريم، سورة يوسف، آية 4.
عواطف عبد اللّطيف، “غربتان” من ديوان خريف طفله، دار الحوراء للطباعة والنشر، بغداد، 2012، ص 29.
وهي قصيدة كانت قد كتبتها الشاعرة في سنة 2011 كردّ على قصيدة الشاعر نبيه السّعدي التي يقول في بعض أبياتها: ( فحاجتكم لغربتكم براق/ ومسراه المبارك لا يخيب/ لأنتم أفضل الأعراب علما/ وأنظفهم إذا افتضحت عيوب/ فمن عرف الخفايا أسعفته/ فلم تهزمه في سفر كروب/) وهذه القصيدة كانت بدورها ردّا على نصّ شعري آخر بعنوان “أحمّلك السّلام” وهو نصّ كان قد كتبه قبل سنوات الشاعر المصري د. جمال محمد مرسي ويقول في مطلعه: (أحمّلك السّلام فكن سفيري/ إلى الوطن المخلّد في ضميري/ إلى مصر الحبيبة والسّواقي/ بوادي النّيل والرّمل الطهور/).
لمْ تُدرج هنا عبارة (وحيدة مثل الفرات) ولكن سيتّم التوقّفُ عندها لاحقاً.
د. ناهدة محمّد علي، شخصيات نسائية متفرّدة، الجزء الثالث (نشرت المقالة على العديد من المواقع الثقافية والأدبية)
سفر التكوين 2: 10-14
عواطف عبد اللّطيف، “بغداد” من ديوان خريف طفله، دار الحوراء للطباعة والنشر، بغداد، 2012، ص 3.
عواطف عبد اللّطيف، “وجع الحروف” من ديوان خريف طفله، دار الحوراء للطباعة والنشر، بغداد، 2012، ص 86.

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *