أمين الزاوي: الرواية التي لا تشوش قارئها هي رواية متآمرة.


*أنيسة مخالدي -باريس

أمين الزاوي كاتب وروائي جزائري يكتب باللغتين العربية والفرنسية، أنتج لحد الآن عدة أعمال بالعربية والفرنسية، منها بالعربية: «صهيل الجسد»، و«رائحة الأنثى»، و«السماء الثامنة»، و«الرعشة»، و«حادي التيوس». وبالفرنسية: «إغفاءة الميموزا»، و«وليمة الأكاذيب» و«الغزوة»، و«حرس النساء»، و«غرفة العذراء المدنسة»، التي ترجم بعضها لأكثر من 12 لغة. وقد تولى عدة مناصب، فكان مديرا لقصر الثقافة بوهران، ومديرا للمكتبة الوطنية، وأستاذا محاضرا بجامعة وهران وجامعة باريس فنسان، وهو حاليا أستاذ محاضر بكلية الآداب بالجزائر.

هنا حوار معه أجري في العاصمة الفرنسية:
* تكتب باللغتين العربية والفرنسية.. ما الذي يحفزك مع كل مشروع رواية لاختيار هذه اللغة أو تلك؟
– أنا عاشق اللغات، لكل لغة غوايتها، فكما للأنثى عطرها، فللغة كذلك، يغريني عطر الشرق بالعربية، وعطر باريس بالفرنسية. حين أكتب باللغتين العربية والفرنسية أشعر كالطير المحلق بجناحين، أشعر بالانطلاق أكثر في المخيال، في معانقة الحرية بصيغة الجمع.. أشعر بالتوازن. أحب اللغة العربية التي بها رضعت حليب أمي، ولكني أيضا أعشق الفرنسية التي بها قرأت رامبو وبودلير ومدام بوفاري والذخائر الأدبية الإنسانية التي نُقلت إليها. كانت العربية بوابتي للشرق، وكانت الفرنسية بوابتي لما بقي من العالم في الغرب والشمال والجنوب. حين أكتب بلغة لا أسأل نفسي لماذا أكتب بهذه ولا لماذا أكتب بالأخرى. العملية أعقد من ذلك، هي علاقة شبقية مع اللغة، أجد نفسي في مشروع رواية بالفرنسية، فأغرق في الفرنسية وأجد في ذلك الغرق لذة، وحين أجدني في رواية بالعربية لا أسأل لماذا هذه اللغة. لكن ما أريد أن أنبه إليه هو أنني سواء أكتبتُ بالعربية أم بالفرنسية، فإنني لا أخون القارئ، هي الهواجس نفسها والإشكاليات والتكسيرات التي أمارسها بالفرنسية أمارسها بالعربية.. لا أجامل قارئا ولا أنحاز للغة.. كل اللغات جميلات، ومغريات، فالعربية لغة مدهشة، والفرنسية أيضا، وأشعر بأن العربية التي حملت كتاب الله تعالى وحوت أفكار المعري قادرة على قول كل شيء. ما هو خطير في باب العربية ليس اللغة، إنما المؤسسات التي تعيش فيها هذه اللغة، هي مؤسسات إما محدودة النظرة أو خاضعة لقمع السلطات العربية غير الديمقراطية أو هي لا تملك حضارة الكتاب.
تقريبا أصدر سنويا روايتين؛ واحدة بالعربية، وأخرى بالفرنسية، وأعتقد أن ما يجعل الروائي مقروءا ليست اللغة التي يكتب بها؛ إنما إبداعيته وأيضا المؤسسات المشرفة على الترويج لكتبه.
في كل مرة أكتب فيها رواية بالعربية، يخيفني القارئ العربي والقارئ بالعربية.. إنه قارئ يخلط ما بين الأدب بوصفه نتاجا ينتمي للمخيال والتحليق والفانتازيا، والكتب الفقهية الشرعية الباردة التي تنتمي إلى باب الممنوع والمسموح.
أعتقد أن القارئ العربي، خاصة مع تصاعد ثقافة المتاجرة بالدين في السياسة والإعلام والفن، أصبح مخيفا غير متسامح وابتعد كثيرا عن تراثه الحر.. تراث المعلقات، وشعر أبي نواس وبشار بن برد وعمر بن أبي ربيعة والمعري وابن الفارض والسيوطي والنفزاوي وابن رشد و…. ابتعد عن فقهاء الحرية، وأدباء الحرية، ونقاد الحرية، وفلاسفة الحرية، والاختلاف، وأصبح حبيس خطاب مجموعة من الدعاة المتطرفين الذين تمولهم جهات لا تريد الخير الثقافي والأدبي للعالم العربي.
* كتبت باللغة العربية «صهيل الجسد»، و«السماء الثامنة»، و«شارع إبليس»، و«حادي التيوس»، و«لها سر النحلة»، فكيف ترى تفاعل القارئ العربي مع روايتك، وهل ترى بحكم تجربتك المزدوجة أن دور النشر العربية تقوم بدورها على أحسن وجه مقارنة بدور النشر الأجنبية؟
– نشرت آخر رواياتي بالفرنسية في دار «فايار» الباريسية المشهورة «وليمة أكاذيب» و«غرفة العذراء المدنسة»، ونشرت رواياتي بالعربية في الدار العربية للعلوم ببيروت بالاشتراك مع «منشورات الاختلاف» في الجزائر، ولكني وبصراحة أعتقد أن ما يقوم به الناشر بالفرنسية بعيد جدا عما يقوم به الناشر بالعربية، فرواياتي بالفرنسية ترجمت إلى ثلاث عشرة لغة من بينها الإنجليزية، والسويدية، والإيطالية، والألمانية، والإسبانية، والتشيكية، والصربية، والصينية، واليونانية، والعربية و… في حين لم يستطع الناشر بالعربية توصيل رواياتي بالعربية إلى القارئ في اللغات الأجنبية، مع العلم بأنني كما سبق القول لا أخون القارئ سواء كتبت بالعربية أم بالفرنسية.
انطلاقا من ذلك أقول بأن النشر في العالم العربي في رأيي لم ينخرط بعد بشكل حِرفي في خارطة النشر العالمي، ولا يزال الكتاب العربي بعيدا عن أن يدخل الزمن الكتبي العالمي. إذا كان واقع الكتاب عالميا يشبه «البوزل»، فالكتاب العربي هو القطعة الضائعة في منظر البزول، وأجزم بأن العرب لن يدخلوا الزمن المعاصر، ولن يدخلوا زمن الحوار مع الآخر إلا إذا وصل الكتاب الإبداعي الذي ينتجونه إلى أطراف العالم، إلى القارئ في اللغات الأخرى، أنا متأكد من أن الثقافة والكتاب بالأساس هو الذي يمكنه تغيير رؤية الآخر لنا، وأخص بالذكر الرواية، إذا لم تصل الرواية العربية والمكتوبة بالعربية إلى القارئ في الغرب والشمال وأقصى الشرق، فإن العالم سيظل ينظر إلينا ويتصورنا على أننا شعب إرهابي ومتطرف ويرفض الآخر.
* تطرقت في روايتك «حادي التيوس» لمسألة الانتقال من عقيدة لأخرى وما وراء ذلك من أسباب نفسية واجتماعية، وفي كتابك الأخير «يهودي تمنطيط» للتطرف الذي يطال بعض الأقليات الدينية، وكلها مواضيع جريئة لم يجرِ التطرق لها من قبل، فهل هذا يعني أن وظيفة الأديب من وجهة نظرك لا تستقيم إلا إذا شغل حسه النقدي؟
– مهمة الرواية، كما أفهمها، هي الدفاع عن الحرية الفردية.. هي تكريس ثقافة النقد عند القارئ، وهي مقاومة الممنوع الساكن في الذات العربية، هي إدانة وفضح المقموع في الثقافة العربية.. أنا لا أكتب بكمامة على فمي، ولا أنتظر جائزة إلا جائزة القارئ، حتى ذلك الذي يختلف معي، ولا أهادن جهة حتى ولو كانت أسرتي أو بلدي حين يتصل الأمر بحرية الرأي وبحرية الخيال.
أخطر ما يعانيه المثقف والمبدع في العالم العربي هو انتهاك حرية الخيال لديه، فالمبدع ليس محاربا ومضطهدا في أفكاره؛ إنه، وهذا هو الأخطر، ملاحق في حريته في الخيال. إن أنظمة عربية تريد أن تلاحقنا حتى في أحلامنا، تفتش رؤوسنا قبل أن تفتش لغتنا ونصوصنا.
أشعر أن مهمتي بصفتي روائيا حين أكتب بالعربية، لا تنتهي عند كتابة رواية من المفروض أن تكون مبدعة، أي تتوفر فيها القيم الجمالية اللغوية والأسلوبية والبنائية والمعرفية، إنما مهمتي أيضا هي «صناعة قارئ» قادر على أن يصاحبني في مغامرة التكسير والنقد، وإن الرواية التي لا تشوش قارئها هي رواية متآمرة على هذا القارئ نفسه.
* الشاعر اللبناني الفرنكفوني صلاح ستيتة كان يقول: «مع كل احتراماتي للغة العربية، ولكن هي ليست على مستوى العالم الحاضر»، وبعض الكتاب العرب الذين يكتبون بلغات أجنبية يطلقون آراء حادة عن اللغة العربية ويعتبرون أنها لا تسمح بالتعبير الصريح المتحرر بسبب القيود التي تحاصرها، فما رأيك؟
– أنا لا أتفق مع هذا القول لشاعر أحترمه كثيرا. المشكلة هي أن الإبداع بالعربية، من حيث لا يدري، يعيش حالة من الرقابة الذاتية المسبقة التي تشل فيه طاقة التحليق والتخييل والنقد، ولكن هذه الحال ليس سببها العربية بصفتها لغة؛ إنما سببها العربية بوصفها مؤسسة سياسية وثقافية وإعلامية، فالمبدع العربي يولد وعلى فمه كمامة، يخاف من الليل ويخاف من الحائط.. في العالم العربي كل شيء له أذن لتتسمع عليك أو عين كي تراقبك.. هناك حالة من تراكم ثقافة الخوف وثقافة الرعب التي تحاول، منذ الاستقلالات الوطنية تارة باسم الوطنية وأخرى باسم القومية أو باسم الاشتراكية، وها هي الآن باسم الدين.. أن تكرس تراكم التخويف، نحن لا نتنفس هواء، بل نتنفس أولا خوفا، وهذه الحال لا يمكنها إلا أن تشل كل ما هو إبداعي الذي معناه الحرية.
اللغة العربية لغة جميلة، من منا لم يندهش لنصوص جبران خليل جبران، أو محمود المسعدي، أو سعيد عقل، أو أدونيس، أو محمود درويش، أو جبرا إبراهيم جبرا، أو عبد الرحمن منيف، أو جمال الغيطاني، ولكن هذه اللغة أصبحت للأسف، شيئا فشيئا، تحاصر في جانبها الفني العلماني لتحتفظ لها فقط بذاكرة لاهوتية.. إنهم يريدون ربط المواطن العربي والقارئ العربي بلغة مفرغة من تاريخها المجيد الذي أسس له ابن رشد والمعري وابن حزم وابن خلدون و…
* كثيرا ما يعاب على بعض الروائيين العرب المعاصرين استعمالهم لغة ركيكة علاقتها بالأدب هشة أو هامشية، حيث إن بعض أعمالهم تأتي مكتوبة باللهجة الدارجة، بعيدا على ما اعتدنا عليه في روائع الأدب العربي في أعمال «طه حسين» و«العقاد».. إلخ، فما رأيك في هذه الظاهرة الآخذة في التزايد؟
– اللغة ممارسة حياتية يومية، على مستوى الإعلام والفن والأدب والبنوك والسوق والهاتف والجار وسائق الحافلة.. لذا لا يمكننا تصور لغة «نقية». اللغات تعيش بتلوث مستمر، وكلما قاربت اللغة الحياة اليومية، أي ما هو «ناسوتي»، تخلصت مما هو «لاهوتي»، لذا أعتقد أن علينا إعادة النظر في مفهوم تطور اللغة العربية.. يجب النظر إلى تطور العربية لا على أساس الخوف من الدخيل فيها، ولكن كيف يمكن استقبال الدخيل. اللغات الحية هي التي تملك علاقة مفتوحة مع المحيط اللغوي، والعربية ليست استثناء. إننا لا نريد أن تظل العربية لغة قابعة في أزمنة مضت.. إننا نريدها لغة اليوم بكل إعصاره وهواجسه وانفتاحاته وجنونه وعقله، ومن يريد للعربية أن تظل لغة الزمن الماضي، فإنه يتآمر عليها ويغتالها. علينا ألا نخاف على العربية، فالخوف على اللغة هو بالأساس خوف ديني، واللغة ليست دينية إنها دنيوية وتاريخية. وحين تفقد أمة ما الحلم وتفقد إمكانية الذهاب بحضارتها إلى الأمام، تُسكن الخوف في اللغة وعليها، وهو ما يعيشه العالم العربي أو بالأساس الأنظمة العربية.
* يعاني الأدباء الذين يكتبون بلغة أجنبية من النظرات الاتهامية.. البعض يرى أنهم يكتبون بلغة أجنبية لأنهم يشعرون بالدونية والتبعية الثقافية، وكثير منهم يتهمون بالخيانة لأنهم يوجهون طاقاتهم الإبداعية للغة أجنبية مبتعدين عن لغتهم الأم، فبماذا ترد على هؤلاء؟
– أريد أن أتحدث عن تجربتي، فأنا شخصيا ليست لي أية عقدة تجاه العربية، فأنا أتقنها، وبها أكتب أيضا إلى جانب الفرنسية.. أقرأ المتنبي في لغة الضاد، كما أقرأ سان جون بيرس أو بودلير أو مالارميه في فرنسيته دون عقدة، وأشعر بسعادة في هذه القراءة المزدوجة التي تثير في مخيالات متعددة وفضولا متعددا.. لذا، فاختيار لغة الكتابة ليس نتاج عقدة؛ إنما نتاج مغامرة، هو نتاج العيش والسكن في الآخر وفي الذات في الوقت نفسه.
لا أربط الكتابة بلغة ما بالهوية؛ إنما أربطها أساسا بالدفاع عن الحرية ومقاومة كل انتهاك قد يحاول أن يهدد المخيال الإبداعي. أكتب بالعربية لا من موقف الدفاع عن انتماء، إنما من موقف الدفاع عن حرية القارئ بالعربية والدفاع عن ثقافة النقد التي يجب أن تتعمم لديه، وأكتب بالفرنسية لتوصيل صورة أخرى عن المبدع الذي ينتمي بالتاريخ وبالجغرافيا إلى منطقة معينة.. صورة غير نمطية.
* كانت لك دراسة باللغة الفرنسية عن الأدب النسوي السعودي، فكيف ترى تطوره اليوم؟
– قرأت جميع ما كتبته الكاتبة السعودية في السنوات العشر الأخيرة من روايات مثيرة.. الإثارة هنا ليست بمعناها السلبي؛ إنما بمفهومها السوسيولوجي، وأعتقد أن تحرير الشرق لن يكون إلا عن طريق المرأة.. الرجل الشرقي غرق في الاستهلاك أو في الدين السياسي، لذا، فالبديل السياسي والإبداعي والحضاري لن يكون إلا من خلال المرأة. المرأة السعودية الكاتبة طرحت كثيرا من مشكلات المجتمع الذي لا يريد أن يرى نفسه في المرآة، خاصة الرجل الذي يعيش حالة من الازدواجية بين المظهر المغلف بالصفاء الكاذب، والداخل الغارق في حمى التناقضات. أنا أعتقد أننا إذا لم نقطع القرن العربي الحالي تحت قبة الرياسة النسوية، فإننا لن نتقدم. البديل للإخفاق الذكوري السياسي والحضاري المتكئ على تبرير ديني لا يمكننا الخروج منه إلا بتحرير المرأة وبتحرير من المرأة، ولكن للأسف هناك مؤامرة ضد المرأة التي تتسرب بين الفينة والأخرى لمواقع السلطة في العالم العربي؛ إذ إننا نجدها تحكم بمنطق الذكورة، وهناك كثيرات من النساء اللاتي تبوأن مراكز حساسة في هرم السلطة، لكنهن جئن هذه المواقع بمنطق القبول بسلطة الذكورة، وهن كثيرات في المغرب العربي والمشرق.
* بصراحة إذا خيرت بين إحدى اللغتين للكتابة، فأيهما تختار العربية أم الفرنسية؟
– لي شهية الكتابة باللغتين، فأنا أحب الكتابة من اليمين إلى اليسار، كما أحبها من اليسار إلى اليمين، تماما كما رقصة الفالس لا يمكن أن تؤديها بكامل طيرانها إلا إذا كنت تعرف الحركة وإيقاعها.. هي حركة ليست ميكانيكية؛ إنما داخلية سرية وسحرية.. أحب أبا نواس، ولكنني أحب أيضا رامبو، وأعتبرهما توأمين حتى وإن اختلفا في الزمن وفي اللغة.
______
*(الشرق الأوسط)

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *