أيمن العتوم …وشجن السجون



* د. بلال كمال رشيد

(ثقافات) 

الشعر ليس كلاماً مصفوفاً ومنظوماً ومحكوماً بوزن وقافية، ولو كان كذلك لما كان فناً، ولا أدخل من أدخل سجناً !!! 
الشعر نظام .. نعم .. لكنه يخترق الأنظمة .. ومحكوم بوزن وقافية نعم.. ولكن له وزناً يحاكي وزن الشعور، وقافيةً ترف لها القلوب.. وتبكي لها العيون…
الشعر يُحاكَم ويُلاحَق.. لأنه يُحاكِمُ ويُلاحِق.. الشعر فنٌ..لأنه خرج عن مألوف الكلام.. لأن المتكلم فيه يتكلم عنا.. بقليل كلامٍ يُغني عن كثير.. وبجميل لفظٍ يُجمل ما لا يستطيع إسهابنا أن يأتيه… ولا يتيه فيما يمكن أن نتيه فيه!!
لأن المتكلم فيه صوتُ ضمير.. صوتي وصوتُك.. وصوتُ من لا صوت له… لأن المتكلم فيه لا يقيده زمن ولا مكان، لأنه يريك الوردَ وإن أدماك شوك.. ويريك الفجر وإن طال ليل.. لأنه يريك الفضاء رحباً لا حد له وإن رأيت حده!!
ما كانت بُيوت الشَعْر تُقلع.. ولم تكن الأطلال أطلالاً إلا بالشعر.
في زمن ما.. كان خلع ضرس أهونَ من قول بيت واحد من الشعر، في زمن ما… جنى الشعر على الشاعر…
إنه الشعر : شعور وموقف…. وهكذا عرف القوم أيمن شاعراً ،عرفوه وهو طالب على مقاعد الدراسة الأولى .. وعرفوه شاعراً على مقاعد الدراسة الجامعية.. وعرفوه شاعراً مهندساً.. ولم ولن يعرفوا أيمن إلا شاعراً !!!
لم يسعَ كما سعى غيره إلى طبع ديوان حتى يُقال عنه: شاعر!
لم يطبع ديواناً ،ولم يستجد الشهرة ،كما يفعل الآخرون…
لكن شعره وهو صغير السن جعله كبيرا…
وشعره وهو مغمور جعله مشهورا…
وشعره وهو فتى حر طليق جعله مسجوناً…
ما معنى أن يُسجن شاعر بسبب قصيدة؟!!!
ذاك زمن مضى.. لكن أيمن اليوم يؤرخه شعراً ونثراً…
فكتبه الأربعة تنتسب إلى أدب السجون… وما أدراك ما أدب السجون؟!!!
والحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه أن أدبنا العربي متخصص في جانب من جوانبه بأدب السجون… وهنا نستذكر أدبيات من مختلف المذاهب والمشارب.. نستذكر عبد الرحمن منيف… 
وسيد قطب… وزينب الغزالي والقائمة تطول…!!
وتمضي تلك المرحلة.. ويخرج أيمن بقصائد جديدة في وقتها،كتبت على الجدران أو بقايا ورق… في فضاء عز فيه القلم والورق!!
يخرج أيمن مصاباً بالحنين والغربة القاتلة… وهل هناك غربة أشد وأقسى من أن تكون غريباً في بلدك؟؟؟؟!!!
فما كان شعراً كان ابن لحظته.. وكان شعراً يُروى ويُحفظ … وما لم يقله الشعر قاله النثر سرداً مسترجعاً بذاكرةٍ ما أصاب الجسد والنفس والحلم بداء الغربة والقيد!!
ولم يكتف بهذا فدون معايشات سجين تدمري في رواية ” يسمعون حسيسها ” 
إن كتبه الأربعة الأولى والتي خرجت في عام واحد… وبعد زمن طويل جاءت ضمن إطار واحد هو أدب السجون… وكأنه يريد أن يقول :” سجون العرب أوطاني “؟!!!
إنها سيرة شعرية وسردية سجينة بامتياز..
ويبقى أيمن الإنسان الودود العاشق السمح اللطيف حاضراً فيقول في مقدمة ديوانه:
” نبوءات الجائعين”:
( تخيلوا أن الحب لا يقف في وجهه شيء ، كنت أحبُّ حتى أفراد الأمن المكلفين بحراستنا؛ لم أكن أعرف أن السجن يُفجر في القلب ينابيع الحنان كلها….)
ويقول: ( أوصلتني القضبان إلى شيء من الاختمار المطلوب، كنا نقول: إننا ثمار.. يخرج من السجن أولنا نضوجاً.. شعورنا بالحرية خلف القضبان كان طاغياً، تتسرب العبودية إلى قلوبنا أحياناً حين تُفتح الأبوابُ جميعها أمامنا، ولا يبقى للقيد ذلك الرنين المحبب، أو ذاك الألم اللذيذ..!!)
وهنا تولد الفلسفة… وهنا يتفنن أيمن في جمع الأضداد:
أفـــــــرُّ مـِـــنَ الممــــــــاتِ إلــــــــى الممــــــاتِ وأعلـــــــمُ أن حتفــــــي فــــــي حيـــــاتـــــــي 
وأحفـــــــــرُ مـــن تُــــراب الحــــرفِ قبـــــــري 
وأحمـــــــلُ بيـــــن أفكـــــاري رفــــاتـــــــــي
أنـــــا ضــــدي!! ومـــنذ وُلِــــــدتُ قـــــالـــــتْ دمـــــــــوعــــي إن ميـــــــلادي وفــــاتـــــــي
وفي قصيدة أخرى يقول:
أمـــــنٌ يُخَوفنــــــــي ، يـــــــأسٌ يـــؤملنـــــي
قــــــربٌ يباعدنـــــــي ، والغـــــدْرُ أوفـــــــــاكِ
مسكون هو بالحب.. يغنيه:
مــــــلأت بأغلـــــى الحــــبِّ أحلــــى دفاتــــــري
إلـــــى أن جعلـــتُ القلــــبَ للحــــبِّ دفتــــــرا
ويقول:
أنـــا مــا حقــــدتُ علــــى السجــــون وليــس لـــــي
قلـــــبٌ ليحقــــد ، بـــل ليعشـــــق لا جـــــرمْ 
إنـــــي أحبـــــكَ ، لـــــــــو تـــــــوزّع خـــافقــــــي
هــــذي القلـــــوبَ ، لفــــاضَ سَلْسَلُهـــــا وعَــــمْ
ويرى في الحب قوة:
الحــــــــب يَكْسِــــــر أغـــــلالاً مقيـــــــدةً
والحــــــبُّ يبـــــدي الـــــذي قــــد كنـــتُ أُخفيـــــــه
هو يغالب الحزن … يستعيد التاريخ… يستشرف المستقبل… وها هو شعره الذي قيل عام 1997م… نراه حقيقة ماثلة في بعض البلاد العربية:
عَلِّــــمْ طُغاتَـــــكَ أنَّ الأرضَ ثــــائــــرةٌ
وأنَّ شَعبــــاً عــــن الثـــــورات لــــم يحِــــــدِ
وفـــــي النفــــوسُ براكيـــــنٌ مؤقتـــــةٌ
إذا هِــــي انفجــــرتْ لـــم تُبــــق مـــن أحــــد
هو يعيد الخارطة إلى عهد لم تكن هناك حدود أو قيود.. يعبر القارات والعصور.. يدخل بيوت الشَعْر والقصور… يرافق الجاهلي والإسلامي… يسمعك صوت الكؤوس… وآهات النفوس… يتلهى .. يتصوف.. يتفلسف… يستنشق هواء العربية… وهوى العربي… من حروف القرآن الكريم أبجديته.. وجِدتُه.. وضالته.. في روايته ” يا صاحبي السجن ” كان العنوان العتبة الأولى إفصاحاً عن المضمون والأسلوب.. وكان العنوان عتبة إلى عتبات أخرى.. كلها جاءت آيات من الذكر الحكيم.
إسلامي هو.. عربي… أردني بامتياز.. يرى في الأردن أرض رباط وارتباط…
في شعره حزن.. وفي شعره حنين للأب والأم ولميسون
لكنه يملك الأمل… ويتحدى…. ذهب السجن… ورحل السجان.. وبقي الفن… وبقي أيمن مغرداً:
” الفن أقوى من الموتِ 
والروح أقوى من الريحِ
والحلم تخنقه اللدغةُ الشاردةْ
وهذا التداخلُ بينَ حياتكَ والموتْ
هُو الفنُّ في لحظةٍ خالدةْ
وتبقى القصيدةُ فوق القبور علامَتَك الشاهِدَةْ “
ويقول:
” ومـــــا دامَ أمــــر الله فـــــي الكـــون ظـــاهـــراً
فكيـــف يَهـــــابُ الشعـــــر وهو يُهــــــــابُ؟! “
ينتصر للشعر .. للحق .. لنفسه:
لقـــــد شِئْـــتَ أن تحيــا “أمينـــاً” علـــى الهـــــوى
وشاءتـــــــك أقـــدار السمــــاوات “أيمنَـــــا”
في حرفه معنى .. ومعاناة
في صوتهِ تحد .. وضوح … لا رضوخ
في قلبه شمس مشرقة أبداً. 
________
* كاتب وناقد من الأردن 

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *