أدونيس..شاعر رقت معانيه عن النقد


* محمّد محمّد الخطّابي * غرناطة

(ثقافات) 

من غرناطة إلى رباط الفتح
ذكريات وصدف الشّعر، والفكر،والكلمة والحرف والموسيقي والسّماع جمعتني والشّاعر الكبير ” أدونيس” فى مدينة غرناطة الفيحاء منذ أمد غير بعيد ، فلمست فيه الانسان البسيط ، والشاعر الكبير إنّه ” علي أحمد سعيد إسبر” المعروف بـ” أدونيس”الذي يستقي اسمه الموسيقي والشاعري الرنّان من أساطير الفينقييّن، الرّجل الذي يكاد ألاّ يرفع عينيه فى محيّاك وهو يخاطبك، تواضعه الجمّ كان محطّ أنظار جميع من عرفوه، أوعايشوه عن قرب. هذا الشاعر المعنّى الذي يأخذك فى هنيهة واحدة بحلو كلامه ، وطلاوة لسانه ، وجزالة ورقّة وعمق شعره، وخفّة ظلّه، إلى ضفاف دجلة، والفرات، والنّيل، ونهرالأردنّ، وبردا، وأبي رقراق …. ويطير بك فى الفضاءات الإبداعية الرّاقية عبر الأجواء الشّعرية الحالمة ، من قريته وضيعته البعيدة فى الزّمان والمكان “قصّابينّ” بمحافظة اللّاذقية بموطنه الأصلي سوريّة الكسيرة والحسيرة ، إلى مختلف عواصم العالم وبقاعه وأصقاعه، إلى القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت وعمّان ، والرّباط ، ومجريط ،وغرناطة وسواها من مدن وحواضر بلاد الله الواسعة، وأخيرا باريس حيث حطّ الرّحال من طول تجوال.
لقد زار المغرب مؤخّرا، وجاب ربوعها من أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها، فى عوالم سوس العالمة والشّاعرة ، معانقا شجرة ألأركان الأسطورية ،سرّ وسحر الطبيعة الخلاّبة التي جادت بها ثرى هذا التّراب التّبر ،أدونيس لم يخف انبهاره وإعجابه بهذه الشجرة العجيبة المعطاء ، التي تقدّم بسخاء للنّاس من كلّ الأعراق والأجناس الغذاء، والظلال والجمال والبهاء والانبهار. فالمغرب بالنسبة لهذا الشاعر الحداثي المصداح يمثل “الخلاصة الحضارية للّقاء بين الشرق العربي والغرب ألأوروبي. جاء وشرّفنا بمجيئه احتفاء بالرباط كتراث انساني وفيها وبين جنباتها، وأسوارها، وأرباضها، وضواحيها صدح صوته بقصيد ” الأربعين عاما ” ، ولسان حاله يقول فى سرّه وعلنه مع الشاعر العربيّ القديم : وماذا يدّري الشعراء منيّ…. وقد جاوزت حدّ الأربعين …. !، أو بالأحرى يردّد مع زهير ابن أبي سلمى المزني مطلع قصيدته الميمية الذائعة الصّيت : سئمت تكاليف الحياة ومن يعش…ثمانين حولا ألا أبا لك يسأم …أو يهمس مع شاعر آخر من بني جلدته وطينته القائل : إنّ الثمانين وقد بلّغتها….قد أحوجت سمعي إلى ترجمان .
تحت ظلال غرناطة الحمراء
ومثلما سحرت مدينة الرّباط ” أدونيس” وهام بالمغرب هياما ، فقد سحرته كذلك من قبل مدينة غرناطة، وهام بإسبانيا حبّا وصبابة و هوى وجوى. قال الشاعر الكوري ” كيم كيدونغ”: ” إن مدينة غرناطة قصيدة كبرى”، ويؤكّد ” أدونيس” من جهته وسواه من الشّعراء فى الماضي والحاضر والآتي أنّ غرناطة هي مدينة الشّعر والأدب والإبداع دون منازع، كلّ ركن من أركان هذه المدينة يبدو وكأنّه عالم سحري رومانتيكي حالم، حافل بالأساطير والخيال ، يفوح بعطر الشعر، وعبق التاريخ ،فقد كانت هناك دائما صلة وثقى، وآصرة لا انفصام لها بين هذه المدينة وبين الشعر،وقصر الحمراء ،وجنّة العريف، وحيّ البيّازين، وفيدريكو غارسيا لوركا من العلامات البارزة التي تؤكّد هذه الحقيقة، ناهيك عن ماضي المدينة الزّاهر إبّان الوجود الإسلامي بها، حيث ازدهرت مختلف أنواع العلوم والمعارف ، وفنون القول والإبداع وفي مقدّمتها الشعر والموسيقى ، وها هي ذي جدران الحمراء تقف شامخة شاهدة على ذلك، إنّها تحفل بالعديد من القصائد الشّعرية الرقيقة ، لابن زمرك، وابن الجيّاب، ولسان الدين ابن الخطيب، وابن سهل الإشبيلي وسواهم من الشّعراء الأندلسيّين المجيدين، الذين نقشت أشعارهم على جدران هذه المعلمة الحضارية والعمرانية الرائعة، أو علّقت كما كانت تعلّق قديما قصائد أصحاب المعلّقات أو المذهّبات على الكعبة، وقصائد شعرائنا الأندلسيّين ما زالت موجودة إلى يومنا هذا ماثلة أمامنا وأمام الفيض الهائل والكبير من الزوّار الذين يتقاطرون على “الحمراء” كلّ يوم من كلّ صوب وحدب، من مختلف أصقاع العالم. وفى نفس المكان الذى اغتيل فيه الشاعر فيدريكوغارسيا لوركا ، وكذا فى منزله تنظم قراءات شعرية، وعروض موسيقية على امتداد الحول تقديرا للشّعر ولعبقرية هذا الشاعر ، ألم يكن هاجس الموت فى شعره قويّا زخما؟ أليس هو القائل:
أصوات الموت دقّت
بالقرب من الوادي الكبير
أصوات قديمة طوّقت
صوت القرنفل الرجولي
و مات على جنب
القصيدة أسمى مراتب الإبداع
قال الشاعر أدونيس ذات مرّة فى إحدى المهرجانات الشعرية التي جمعتنا فى غرناطة الحمراء : لا السّياسة ، ولا التجارة تعبّران عن هويّة شعب، الذي يعبّر تعبيرا حقيقيا عن هويّة شعب هو الخلق والإبداع،والقصيدة هي أسمى وسائل التعبير في مختلف الميادين ، وهي أعلى مراتب ألإبداع هناك أناس يكتفون بالنظر إلى العالم،وهناك أناس آخرون وهم الشعراء يذهبون إلى أبعد من ذلك ، إنهم يحاولون الدخول في عقول القرّاء، ويعملون على تحويل العالم إلى مكان أكثر أمنا وشاعرية . وينبغي على الشّاعر أن يكون شاهدا على ما هو حقيقي أو مخادع، ومن ثم يأتي اهتمامه بالكائن البشرىّ. ويرى أدونيس أنّ الشّعر يتخطّى الكلمات ،وهو ضرب من ضروب الوجود ، إنّ دور الشاعر هو الكفاح الدائم ، ودعم الثورات الحقيقية. وقال إنّه لم يسهم بمفرده فى تطوير الشعر العربي- كما ذهبت الشاعرة الإسبانية راكيل لانسيروس- بل كان هناك شعراء كبار كثيرون تعلّم منهم ،لقد رافقه شعراء آخرون قبله وبعده الذين أسهموا جميعا في تطوير الشّعر العربي الحديث. وقال: إنّ الشّعر بالنسبة له هو الحبّ، وهو أبعد من الكلمات والتعبير، وهو يكتب ويقرض الشعر ليعيش أحسن، وليتفاهم أكثر، ويفهم الآخرين والعالم الذي نعيش فيه، وهولا يستطيع العيش بدون شعر. والخلق أو الإبداع عنده هو التعبير عن مختلف ميادين الأدب والشّعر والتشكيل والموسيقي. الإبداع هو التغيير وإعطاء صورة جديدة للعالم ،هو إعطاء صورة جديدة للكلمات ، وقال ينبغي لنا تغيير العلاقات بين العالم وبين النصّ والشّعراء والإبداع في جميع الميادين ، والقصيدة عنده ليست إنتاجا ، التصنيع هو إنتاج، والإبداع هو الشّعر، والشّعر رحلة جوانيّة للبحث عن صورة أكثر إنسانية للعالم الذي يحيط بنا.
أدونيس والغرب
وقال أدونيس: إنه هاجر عام 1956 من بلده سورية ،وهو يقيم في فرنسا منذ أوائل الثمانينات، وهو ضدّ الأيديولوجيات التي تستأثر بالسّلطة،ولا تهتمّ بتغيير المجتمع ، والسّلطة الحقيقية هي التي تغيّر المجتمع ومؤسّساته لتصبح أكثر عدالة وأكثر حريّة،وتحدّث عن فصل الدّين والدولة ،وأشار أنّ الإسلام عقيدة و ثقافة، ولا ينبغي أن يستعمل لأهداف سياسية، وقال إنّه يتفهّم الحركات التي عرفها العالم العربي، وأنّ الشباب العربي قام بحركة رائعة ، وعلى الرّغم من العراقيل، فإنّ هذا الشباب سيستمرّ في هذه الثورة . وقال ينبغي على الشّعراء والكتّاب أن يقفوا إلى جانب المقهورين، وضدّ التدخل الأجنبي والأمريكي على وجه الخصوص، وأنّ هذا التدخل لا يمكن أن يفضي إلا إلى مزيد من العنف. وضرب مثالا بالأوضاع المعاشة حاليا في العراق وليبيا وتونس ، و إنه ينبغي لنا أن ننتظر حتى نرى ما ستؤول إليه الأوضاع في مصر وفي العالم العربي، وقال إنّ الغرب يتظاهر أنه يدافع عن حقوق ألإنسان وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن يبدأ بسورية ،وهو لا يفعل شيئا ، ولا يقول شيئا للدّفاع عن الحقوق المهضومة للشعب الفلسطيني الذي طرد من أرضه منذ أزيد من خمسين عاما ،. والغرب لا يدافع عن حقوق الإنسان بقدر ما يدافع عن مصالحه الإستراتيجية وعن البترول والغاز والطاقة. وأدونيس معروف بدفاعه عن حريّة المرأة ،وهو يؤكّد أنّه لا يمكن أن يكون هناك مجتمع حرّ دون حريّة المرأة . 
وهو يشعر أن فيديريكو غارسيا لوركا والشّعراء الإسبان هم عرب ، مثلما يشعر هو بأنّه شاعر إسباني، والشّع رفى منظوره يمحو ويزيل الحدود بيننا . ويروق لأدونيس الاستشهاد ب “التّوحيدي” الذي كان يقول الصّديق هو الآخر، وهذا الآخر هو أنت نفسك، وهكذا يغدو الآخر عنصرا مكوّنا أو مؤسّسا للأنا. والشّعر هو الذي يلقّننا ذلك ويقودنا إليه. 
حوض الموسّط .. ثراء وتنوّع
وعن دور الشّعر في المجتمع المعاصر يقول أدونيس:” الآن يبدو أنّه لم يعد للفلاسفة والعلماء ما يقولونه ،ولكن الشّعراء نعم ” ويرى كذلك أنّ الشعر لا ينطوي على جانب علمي، ولهذا فقد لا يكون فى مقدوره تغيير العالم ، إلاّ أنّه يمكنه تغيير رؤية الإنسان حيال هذا العالم ، ونوعية علاقاته مع الآخرين.
ويرى أنّ الرّوائيين ليس لهم أيّ تأثير كبير في المجتمع المعاصر،وفى هذا العالم ، حتى وإن كان لهم قرّاء أكثر ممّا لدى الشّعراء ، فإنّ الرّوائيين يمرّون فى عقل أيّ إنسان بطريقة أفقيّة وسطحيّة وهم يؤثّرون في القرّاء المستهلكين ، أمّا الشّعراء فيؤثّرون في القرّاءالمبدعين ، فسرد العالم يعني نسخه ، وإذا كنا ما نقوم به هو إستنساخ الحياة، فإننا لا نقوم بأيّ شئ حقيقي، فالفنّ والإبداع ينبغي لهما خلق طاقة منتجة ، والشّعر يتميّز برؤيا خاصّة وشاعريّة للعالم.
وقال: إنّ علاقته بالشعر هي أكثر غنى وثراء الآن ممّا كانت عليه عندما بدأ ينظم الشعر،وهو دائم المطالبة بمزيد من الحوار والتفاهم المتبادل، ولديه الثقة الكاملة فى الطاقات البشريّة المتوفّرة في حوض المتوسّط شريطة ألّا نظلّ حبيسة التجارة والعسكرة ، وإذا كان يبدو للناس أنّ هناك ثقافة متوسّطية واحدة، فهذا ليس صحيحا ، فالمتوسّط يقدّم لنا ثراء وتنوّعا رائعين، ولهذا ينبغي لنا أن نهتدى لإيجاد طريق التفاهم والحوار”.
ونحن جلوس، والشّفق الغرناطي الذي ليس له نظير يعلن انصرام يوم، وانسدال ستائر الليل الجميل فى تؤدة وتأنّ ورفق وهدوء على جدران ومرتفعات وآكام قصرا لحمراء ، فإذا بصوت شاعري رخيم يسمع من بعيد، من وراء الأفق الأحمر القاني البعيد يترجّى الشمس المائلة نحو المغيب صادحا ” يا شمس العشيّة أمهل لا تغيبي بالله رفقا “، و فى تلك اللحظة أيضا، فى مدينة السّحر، والعطر، والصّبا، والجمال رمقنا هيدب إبن سهل الإشبيلي الأندلسي يشرئبّ بعنقه ، ويطلّ علينا من على أكمة الحمراء، ولسان حاله يقول مخاطبا أدونيس :
كيف خلاص القلب من شاعر
رقت معانيه عن النقد
يصغر نثر الدرّ من نثره
ونظمه جلّ عن العقد
وشعره الطائل فى حسنه
طال على النابغة الجعدي
___________
*كاتب من المغرب يقيم فى إسبانيا .

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *