النساء يركضن وحدهن


* عناية جابر

في أي سياق يمكننا وضع مهرجان المرأة الراكضة أمس في بيروت؟ فبينما كانت المرأة تركض في بيروت كانت تسابقها صواريخ عيتات الساقطة على أطراف الضاحية. هناك في صيدا سباق آخر يجري ضد عدو المرأة أيضاً. وفي طرابلس كانت الناس تعدو كذلك هرباً من قذيفة ضائعة أو رصاصة طائشة. يقال طائشة كأن هناك رصاصة عاقلة ورصينة.

في لوحة قاتمة كهذه يمكن المرء أن يضيع في فهم الرسالة التي حاولت نساء وصبايا لبنان توجيهها الى اللبنانيين نساءً ورجالاً. فهم البعض مثلاً أن المرأة حينما تركض إنما تمارس عملا نضالياً يرقى بالبلد الى مستوى حضاري رهيب. أكثر من ذلك هناك من تحدث عن صورة. صورة البلد طبعاً. الصورة الراقية حيث النساء يركضن وحدهن بدون رجل. 
وبعيداً عن “الشورتات” الراقية والنظّارات “الغير شكل” والأحذية الرياضية التي تتحدى أحذية المدينة بسعرها وجودتها وجمال منظرها، لا يمكن المرء إلا أن يؤيد نساء بلاده في سعيهن لممارسة الرياضة، وفي سعيهن، عبر ذلك، لتأكيد دورهن الأساس في المشاركة بصنع الحاضر والمستقبل.
كان بالإمكان كذلك أن نلحظ رغبة دفينة لدى المشاركات في إثبات شيء ما، لم نتبينه صراحة وبوضوح كافٍ. فالمرأة في مجتمعاتنا مهمّشة في مكان ما، وتقع عليها وحدها مهمة رفع هذا الحيف التاريخي. الركض بدون الرجل يقود ربما إلى تأكيد دورها ومكانتها وقدراتها التنافسية المستقلة. لكن الرسالة كانت غامضة بعض الشيء. المرأة الراكضة بدون الرجل راكضة ضد الرجل أم ضد المجتمع الذكوري أم ضد الحرب؟ 
في هذه الظاهرة، وأياً كان تعلقنا بحقوق المرأة، ما يثير الغرابة في اليوم الذي جرت فيه. ثمة شيء سوريالي فيها. ففي بلاد تحوم ألسنة اللهب الإقليمية والدولية حولها من كل جانب، رأت نساؤها لا أن تواجه هذه المسألة بل أن تركض.
من المعروف أن أشكال التحرك لها أهميتها في لفت الانتباه إلى مضمونه، وإلا غلب الشكل على الرسالة. غالبية النساء اللواتي صرحن للإعلام أثناء الركض شددن على الجانب الحضاري المضيء لهذه الظاهرة. لم يقلن طبعاً وللأسف لماذا. بقي التفسير طي الكتمان. معيار حضارة شعب لا تقاس طبعاً بركض النساء وحدهن. وحتى لو كان هو المعيار فإن معيار المعيار هو أن تمارس النساء الرياضة في حياتهن العادية دورياً وبدون تلفزيونات.
قد يكون قصد تلك النساء بالجانب الحضاري أنهن أردن توجيه رسالة ضمنية ضد التيارات السلفية التي تدعو اليوم إلى إعادة المرأة الى المنزل وتكويمها فيه. نتمنى أن يكون القصد بالحضارية هو هذا، لا تقليد “الحضاريين” في الدول الصناعية.
أيا كان الهدف من الركض فإن للمرأة العربية حقوقاً يبدو أن ما حصل من انتفاضات حتى الآن لم تعرها الانتباه الكافي، بل العكس تظهر وكأنها تجري على حسابها.
______
* شاعرة من لبنان.(السفير)

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *